مسقط – العمانية |
لا يأتي ذكر مدينة مسقط إلا ويأتي ذكر تاريخها الضارب في القدم والذي هيأها لتكون مدينة جذب سياحي استثنائي في منطقة الخليج العربية على كافة المستويات التاريخية والجغرافية والعمرانية والثقافية.
ومما يميز هذه المدنية الساحرة أنها العاصمة الخليجية الوحيدة التي يتعانق فيها الجبل بالبحر ويسرد كل منهما حكاياته ورصده للتاريخ العماني. أما ذلك العناق الأزلي بين البحر والجبل والذي يشكل أحد معالم جمالها فهو الذي أعطى المدينة طوال التاريخ هيبة ومنعة ولكنه جعلها أيضًا مدينة الأسئلة والغرابة ومهوى الأفئدة .
ويعتبر البعض أن تلك الأسئلة وتلك المنعة المادية والمعنوية أعطت المدينة قوة دفاع عسكرية فريدة لا تتوفر للمدن المكشوفة في شبه الجزيرة العربية.
ولأن المدينة مفتوحة على خليج عُمان والمحيط الهندي فإنها تمكنت أن فتح حوارِ حضاريِ مع الآخر القادم من كافة الأصقاع لكنها كانت أيضًا محط أطماع المستعمرين في الكثير من فترات التاريخ خاصة مرحلة الكشوف الجغرافية وبشكل خاص البرتغاليين الذين سيطروا على الشريط الساحلي من عُمان وبشكل أخص مدينة مسقط قبل أن يتمكن العمانيون من طردهم ليس من منطقة الخليج العربية فقط ولكن من شرق أفريقيا.
ويمكن لزائر المدينة لأول مرة أن يرى فعل قسوة الجغرافيا عبر الجبال الصلدة القاسية وكيف تحولت إلى مساحة جمال رباني وكأن المدينة قد نُحتت في الصخر أو أعيد بناؤها محاكاة للوحة زيتية رسمها فنان ماهر للمدينة وأعاد نحات أكثر مهارة محاكاته لتبدو المدينة كما نراها اليوم.
ويمكن أن تتجلى فكرة نحت المدينة في الصخر بتأمل قلاعها ” الجلالي ” و” الميراني ” وقلعة ” مطرح ” والبيوت المبنية في حواري المدينة القديمة والأبراج المنتشرة بكل مكان في المدينة.
ولا يبدأ تاريخ مسقط العريق يوم أن تمكن حمد بن سعيد البوسعيدي من اقناع والده الإمام سعيد بأهمية مسقط التي كانت تُحكم من قِبل الوالي محمد بن خلفان البوسعيدي وأهمية أن تكون هي العاصمة بدلًا لمدينة الرستاق التي كانت هي العاصمة في ذلك الوقت نظرًا لموقعها الجغرافي وقدرتها على فتح أبواب التواصل مع الأمم الأخرى.
وانتقلت العاصمة فعلًا لمسقط لكن مسقط في ذلك الوقت كانت قد تشكلت باعتبارها مركزًا مهمًا على المستوى التجاري والاقتصادي وأهمية موقعها الجغرافي وموانيها التاريخية.
وكان عالم الآثار الفرنسي المستكشف والكاتب جين ديولافوا قد قال واصفًا مدينة مسقط عام 1884 “إنه خليج هادئ محاط بنطاقات ثنائية واسعة من الصخور، الماء الأخضر يحيط بأرضية المدينة البيضاء”. ذلك التاريخ القديم للمدينة قد شكل حاضرها المزدهر اليوم فأصبحت قبلة أساسية للسياحة التاريخية والثقافية.
وتعتبر مدينة مسقط من أكثر المدن في المنطقة اهتماما بالمتاحف التاريخية ودليل ذلك المتحف الوطني الذي يعد درة المتاحف في السلطنة والذي يبرز تاريخ عُمان وتراثها الثقافي منذ ملايين السنين وإلى عهد النهضة المباركة.
والزائر للمدينة يجد المتحف في مواجهة مع قصر العلم، الذي يعد هو الآخر أحد معالمها التاريخية ويشكلان في تقابلهما مكونًا رئيسًا من مكونات جمال المدينة.
ويجد الزائر للمكان فرصة كبيرة يتعرف من خلالها على تاريخ عُمان عبر ملايين السنين من خلال زيارته وتجواله في قاعات المتحف الوطني الذي لا يقتصر دوره على عرض اللُقى والآثار التي تؤرخ لتاريخ عُمان والعمانيين لكنه يحمل رسالة تعليمية وتثقيفية من خلال ترسيخ القيم العُمانية النبيلة، وتفعيل الانتماء، والارتقاء بالوعي العام لدى المواطن، والمقيم، والزائر وفق رؤية متحفية متقدمة وباستخدام أحدث أدوات التكنولوجيا المتقدمة.
وسيكون أمام الزائر للمتحف 14 قاعة تتضمن حوالي 6000 من القطع والآثار المنتقاة بعناية فائقة والتي تمثل مراحل مختلفة من التاريخ العماني، وهي كفيلة بأن تعطي تصورًا بانوراميًا عن تاريخ عُمان وتاريخ إنسانها والمراحل التاريخية والجغرافية التي مرت به عُمان وعبقرية الإنسان العُماني من خلال قدرته على التكيف مع تحولات التاريخ وصعوبات الحياة ومن خلال مشاركته في صناعة الحضارة الإنسانية.
وعلى مقربة من المتحف الوطني يوجد المتحف العماني – الفرنسي الذي يحتفي بالعلاقات التاريخية بين عُمان وفرنسا وليس بعيدًا عن ذلك يوجد متحف ( بيت الزبير ) الذي يروي تاريخ مسقط القديمة ويعرض الكثير من المقتنيات التي تحاكي أساليب الحياة القديمة في المدينة عبر عرض الكثير من الصور النادرة عن المدينة.
وهناك في مسقط أيضًا متحف بيت البرندة الذي يُحاكي هو الآخر جانب من تاريخ المدينة البحري بشكل خاص وأساليب العيش والسلع التجارية التي اشتهرت بها المدينة على مر التاريخ ، اضافة إلى ( متحف التاريخ الطبيعي) و( متحف الطفل ) ، ومتاحف كثيرة متخصصة ك(متحف تاريخ العملات) في السلطنة.
وإذا كان المتحف الوطني وقصر العلم معالم من معالم المدينة البارزة فإن هناك قلعتي الجلالي والميراني وقلعة ( مطرح ) التي أعيد ترميمها وافتتحت أمام الزوار العام الماضي و( قلعة الراوية ) و( حصن السفة ) و( بيت السيد نادر ) و( بيت السيد عباس بن فيصل) اضافة إلى ( سور مسقط ) الذي كان يحيط بالمدينة القديمة ويبلغ امتداده 750 مترًا ولها ثلاثة أبواب شهيرة هي ( باب المثاعيب ) و( الباب الكبير) و( الباب الصغير) . وفي الأزمنة السابقة تغلق هذه الأبواب عند حضور المساء ولا تفتح إلا في صباح اليوم التالي.
ومن معالم محافظة مسقط الأثيرة والتي تلقى إقبالًا كبيرًا من السياح، سياح الداخل والخارج سوق ( مطرح القديم) الذي يعتبر هو الآخر من أبرز معالم المدينة والذي يأتي متناسقًا مع الأسواق الشرقية الشهيرة.
وفي هذا السوق يمكن للزائر أن يقف على الكثير من صناعات المدينة تاريخيًا كصناعة الفضيات وصناعة الحلوى العُمانية وبيع البهارات المتسوردة من الهند وشرق أسيا.
وإذا كان زائر مسقط يقضي نهاراته المشرقة في زيارة قلاعها ومتاحفها فإن في المساء له مواعيد أخرى مع الثقافة والفنون، فإذا لم يذهب للنادي الثقافي لحضور أمسية شعرية أو ندوة فكرية فإن موعده حتمًا سيكون في دار الأوبرا السلطانية لحضور عرض أوبرالي أو الاستماع إلى أحد أصوات الغناء العالمي أو العربي.
ودار الأوبرا السلطانية في مسقط تصنع للمدينة شهرة عالمية وتجذب لها السياح من كل مكان في العالم. ورغم أن الدار قد أكملت في أكتوبر الماضي سبع سنوات فقط منذ افتتاحها إلا أنها تمكنت من أن تضع نفسها في مصافٍ أعرق دور الأوبرا في العالم من خلال برنامج سنوي ملتزم بالتنوع بين الحفلات الطربية العربية وعروض الأوبرا العالمية واستضافة أعرق فرق الأوركسترا في العالم.
وعلى امتداد واحد مع دار الأوبرا السلطانية سيجد الزائر دار الفنون الموسيقية التي تكمل هي الأخرى منظومة احتفاء مدينة مسقط والسلطنة بشكل عام بالفنون.
وفي القرم حيث دار الأوبرا السلطانية ودار الفنون الموسيقية يمكن لزائر المدينة أن يأخذ جولة في أحدث معارض الفنون التشكيلية أو يشهد محاضرة فكرية أو تاريخية .
إن أهل عُمان كما وصفهم الرحالة البريطاني جون أوفينجتون عندما زارها 1693 هم ” عرب مهذبون جدًا في تصرفاتهم، وفي غاية اللطف مع كل الغرباء، فلا أذى ولا إهانة يمكن أن تصدر منهم لأي أحد، ومع أنهم معجبون بدينهم ومتمسكون بمبادئهم فإنهم لا يفرضونها على أحد”، أو كما قال عنهم الصحفي الإنجليزي جيمس سيلك بكنغهام عندما زار مسقط عام 1816 ” من الخصائص العظيمة والمميزة لمسقط عن كل بلاد العرب هو ما يبديه سكانها بكل مراتبهم إلى الأوروبيين من احترام ولطف، هنا يمكن للغريب أن يذهب حرًا حيث يريد وهنا أعجب كثيرًا بقيم التسامح لدى العمانيين”.
لهذه الأسباب وكثير غيرها تكون مسقط في واجهة المدن السياحية ليس في منطقة الخليج العربية بل في العالم وليس غريبًا أن تختارها الكثير من وسائل الإعلام العالمية أحد أهم الوجهات السياحية كل عام.. إنها مسقط التي تفيض جمالًا وتاريخًا وثقافة وفنًا وتنثر قيم المحبة والتسامح وتقبل الآخر ولذلك لا عجب أن تكون وجهة عالمية على الدوام.