٢٣ يوليو.. إملاءات الوطن وقيامة المكان

 

بقلم: حمود بن سالم السيابي

يبزغ فجر النهضة من ثنيات سمحان والقمر ومعه الأنقياء الذين يسرجون صهوات الأشواق فيهبطون إلى السفح وكأنهم يسابقون الشروق، وقد تركوا الكلاشنكوف والكاتيوشا في حقول الدجر وأكواخ الرعاة.
كان الثالث والعشرون من يوليو  ماطرا كهذا اليوم، وسهل أيتين يمد فرحه الأخضر كهذه الغلالة الخضراء.
وكانت صلالة القادمة من صبا الزمان بكبريائها المنجوي وعنفوانها الحبوظي ومجدها البوسعيدي على موعد هذا اليوم لتصافح الفجر وتتعشق الحرية.
وكان كل سجين في المكان انتفض بتحريض هذا الصباح، وطفق يكسر قيده بأسنانه من دون أن ينتظر السجان.
وكل مقهور استفز، فحفر بأظافره نفقا ليخرج إلى النور، وليملأ رئتيه هواء نظيفا قبل أن يفتح حارس السجن مصاريع ومراجيم ومغاليق الزنازين.
وكانت كل الأحلام التي توسدت اليأس طويلا تتزاحم فجأة لتفسر حلمها دونما حاجة لمعبر للرؤى.
ومن شرفة غرفتي بكراون بلازا أطل على صلالة المتوهجة فتقوم قيامة سمهرم.
وأعبر غابات النارجيل نحو الحصيلة والدهاريز وعوقد، واتحسس الزمان في أعمدة البليد الغائرة في ملح الأرض، والمتشبثة بعوالق خور روري وخشب السفن المتعبة وصخب المرافيء العتيقة.
وأسرح في ذاكرة صلالة الوفية وأتصفح ستة وأربعين عاما حيث الشيخ هلال الحوسني يزيح عن كتفه بندقيته ككل الذين أزاحوا البنادق عن الأكتاف، وتركوا ( دشم ) الإنتظار وخنادق الصبر، ونزلوا من السفوح ومعهم زهور الذرى ورياحين الوهاد.
وأستمع للمسؤول عن سياج المدينة يأمر عقيد البروج علي بن عبدالله الحوسني بفتح البوابة رقم ٤ في سياج صلالة الشائك لتندفع ٣٠٠ عربة باتجاه الحصن
وأستعيد لحظة إظلام القصر بقيام أحمد بن سويدان البلوشي وخلفان بن سالم المعمري وسعيد بن جيح بإشعال قلوبهم ليطفئوا مولد الكهرباء الوحيد الذي يغذي قصر الحصن.
وأسترجع دهشة العقيد سالم بن راشد المعمري وهو يفتح بوابة القصر للشيخ بريك بن حمود الغافري وثلة تستحث اللحظة لتسليم سيد القصر خطاب إملاءات الوطن واستحقاقات التاريخ.
وأجدف بأشرعة الذكرى نحو القصر فتحملني الردهات والغرف والشرفات إلى حيث ينتظر سيد الحصن على تقاطعات زمن يتسحب من الزمن، وحضور يتماهى في سديم الغياب.
وتبقى لحظة المجد الأهم كمحصلة لكل ذلك أن سلطانا جديدا أطل كهذا القمر المتأخر في هذا الليل البهي من صيف يوليو عام 1970،  وان عهدا انطوى، وعهدا بدأ، وأن تاريخا جديدا يسطر ، وحكاية مشحونة بالبشارات تتوالى، فسيد عمان مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم يخرج من بيته الصغير ليجلس على عرش قلوب انتظرته، ويعلن  ولادة عهد جديد على نفس الجغرافيا الراعفة بالمجد، فيتقدم نحو عرش الآباء الميامين ومعه الجلندى والوارث بن كعب والصلت  بن مالك وناصر بن مرشد وقيد الأرض واحمد بن سعيد وسعيد بن سلطان وتركي بن سعيد وعزان بن قيس .
ولم تكن مسقط عاصمة التاج في مشهد الحصن ولكنها المحركة للفعل والملهمة، وقد اجلت إطلالتها للمشهد لحين وصول سيدها إلى مسقط لتخرج الى مطار بيت الفلج ولتستقبله بشوق أربعة عقود وحرقة ألاف القرون.
وفي أصيل يوم استثنائي من خواتيم يوليو هبطت طائرة ( البي أو أي سي ) وأطل صانع التاريخ وبطل المناسبة بقامة منتصبة كرمح، يعتمر القريتانية عمامة السادة وتاج السلاطين، ويتلفع ببردة الشرف، ويتوكأ على سيف مغمد.
وقبل ان تهبط الطائرة وتعانق إطاراتها المدرج المخضب بالعطر والكحل والأشواق ولهفة الإنتظار، كان جلالته يطل من نافذة الطائرة على مسقط المثقلة بالإرث، ويحنو بنظرة على العمانيين المثقلين بجور الأيام،  فقال وعيونه تتوضأ بالدمع “هذا الشعب ما يهون أحد يكدره،
لقد جاء جلالته كمزن الله ومطره، ليتسكب في الوهاد الموحلة والأرواح العطشى، واطل كليلة القدر لينقل العمانيين إلى قدر جديد بعون من الله القادر .
وحين وقف عند باب الطائرة ألقى نظرة على جبال يراها لأول مرة وأرض تنفتح أمام عينيه لأول مرة، ووجوه عرفها في مراسلات والده وتعرف عليها من صخب الأسطر وجنون الحروف والكلمات لأول مرة.
وحين لمست أقدامه الشريفة الأرض الشريفة، تلاشت الطائرة على ضخامتها في انفعال الإستقبال وعفويته، فاختلط القادم الميمون بالمستقبلين، والطائرة بالعربات، والجبال بطوابير البشر.
وكان التساؤل الذي شعشع في أفق المناسبة أين جلالته من بين كل الرجال الذين يرفلون بحلل العمائم والبشوت  ؟ بل أين الطائرة التي جاءت توقظ  باطاراتها المارد العماني الغافي والاسد العماني المتكاسل ؟.
بل أين المطار نفسه  وقد ضاع مدرجه، وضاع هدير الطائرة ؟.
ورغم أن سيد عمان قد جاب العالم شرقه وغربه قبل أن يتقلد مهمامه كسلطان على عمان وسلطان على قلوب أهلها إلا أن الأقدار حالت بينه وبين عاصمة ملكه وملك آبائه من أن تكون على أجندة زياراته  وخارطة تطوافه، وكأن والده تعمد في ذلك لتتحرق الأكباد وتتقرح المآقي وتنخلع القلوب شوقا لرؤية سيد يكسر باب بيته الصغيرفي صلالة، فيخرج، ويكسر العمانيون قفول بيوتهم الصدئة فينجرفون كالأودية يغسلون الأرض المتربة التي ستستضيف تراب قدميه ويفترشون الاهداب سجاجيد ليمشي، ويجعلون من أرواحهم قببا خضراء ليعبر إلى القصور المفروشة في القلوب  ومحاجر العيون. فالسيد ضجر من الأبواب والحيطان، وجاء ليتنفس ويفترش البساط في الهواء الطلق .
لقد رحل السلطان الأب وهناك من تأخذه عبرة النهايات برحيله، وجاء السلطان الإبن والملايين يتحرقون شوقا لمجيئه، ولكنه جاء وفي الموعد الذي حدده.
جاء سيد عمان ليصوغ من فسيفساء البعثرة العشائرية قبيلة واحدة لها نفس الهامات ولخيولها نفس الغرر، ومن كيمياء الجغرافيا وطنا واحدا لجباله نفس الشموخ ولأوديته نفس التدفق والجريان.
وأعود لصلالة الوفية التي تتزاحم هذا الصباح في إيتين ودربات وجرزيز والمغسيل تستقبل الفجر الذي يشرق فتمد سجادتها لتصلي، فالثالث والعشرون من يوليو قيامة المكان ولديها اليوم الكثير بما تباهي به الدنيا من مكتسبات، ولديها التصميم  على تأكيد استحقاقها لكل ذلك، فهي وريثة ركوب الخطر لتنال العلى، ووريثة لعق الصبر لتبلغ المجد.
—————
صلالة في ٢٣ يوليو ٢٠١٦م

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*