بانكوك لم تعد سيئة السمعة وأهل الخليج يئنون في مستشفياتها من السياسات العربية الجائرة

بقلم الاستاذ الأديب: حمود بن سالم السيابي 
——————–
هنا تشققت الأرض يوما قبل خمسة آلاف عام فكانت سيام الرحم الأول للأرز.
وهنا جاء الملك راما الأول قبل ٢٣٦ عاما ليغرس صولجانه عند التقاء نهر تشاوفرايا بخليج تايلند لعله يورق صنفا فاخرا من الأرز على مائدة الملوك فكانت بانكوك أجمل مذاق للتاريخ في جنوب شرق آسيا.
وحين حطت بي الطائرة العمانية على مدرج مطار سوفارنابومي كان علي أن أفتش عن الصولجان المعمد بالإنتصارات على كمبوديا ولأحيي الملك راما الأول إلا أن صولجانه تماهى وسط غابة من أبراج تقوية “ون تو كول” و”هبي” و”الثري جي” وغيرها من هوائيات شركات الإتصالات.
وبحثت عن قرية “نون نوكثا” كأول حقل أخضر للارز عرفته الإنسانية ففوجئت أن المساحات الخضراء في العاصمة البوذية تتقلص فبانكوك الحديثة مشغولة بزراعة الشعر لتعيد الفتوة للرؤوس الحليقة.
وكان علي أن أبادل راما عشقه للأرز فأتناوله في الإفطار إلا أنني لم أستسغه فكان باردا فاستسمحت مملكة سيام.
كانت بانكوك قد تلفعت بشال المساء حين انطلقت السيارة إلى وسط المدينة وعيونها السيامية الناعسة تزداد صغرا إلى صغرها حين تُغْمَض.
وكان الصيادون الذين ألقوا صناراتهم في خليج بانكوك قد عادوا إلى بيوتهم فالمياه معتمة والسمكات الحمراء تنهي يوما طويلا من مخاتلة الصنارة واختطاف الطعم لتهرب إلى مسافات لا تطالها أماني الصيادين فتترك لها العوالق والطحالب وعكر القيعان.
وكان نهر “تشاو فرايا” قد أبطأ جريانه وتفرقت بجعاته وبطاته أيدي سبأ وتوسد العشب سهاد الضفاف.
ووحدها منطقة النانا المجاورة للماريوت كانت تخرج على النص التايلندي وتعاند سنن المكان فلا تضبط زمنها على عتمة المياه وضجر الصيادين وتثاؤب البجعات ، ولا تضع الياسمين مبكرا على وسادتها لتخلد في النوم ، فقد تصالحت مع الليل واستبقت عتمته بإشعال لافتات المحلات لتنافس تلؤلؤ زمرد بوذا.
واستعانت بأضواء “التك تك” التي تتمختر بين سكيك المدينة العتيقة وهي تنعكس على خواتم العقيق في أصابع الخليجيبن وتبرق مع لمعان سبحاتهم الكهرمان.
وحين ينام نصف بانكوك في منتزهات “سيلوم و”مكاسان” و “لمفيني” و”سفان سنج” و”بانج كابي” يسهر النصف الآخر في النانا إلى الفجر فمحلات “فريدة علي” تصطاد عشاق الساعات والحقائب من الخليجيين الذين تعجز مداخيلهم عن التزين بساعات “الرولكس والبياجيه والباتك فيليب وشوبارد” فتقدم لهم نسخا تجعل كل تاريخ الماركات ينهار ، وكل مبتكري الساعات في سويسرا يخرجون من قبورهم وهم يلعنون اللحظة التي ألهمتهم هذه الأيقونات الساحرة.
وهنا في النانا عند فريدة علي وغيرها من بائعات الحقائب والأحذية تتسابق الخليجيات في اقتناء أفضل النسخ المقلدة من الحقائب لتتكامل مع العباءات والبراقع إناقة السلاسل الذهبية المتارجحة في الأيدي والأحزمة الجلدية المتدلية من المناكب لحقائب “الديور وجوتشي ولويس فيتون”.
وتعبق النانا بعطورات الشيخة فاطمة التي تستخلصها من زهور آسيا بخلطة من سر الشرق ، ويحرق “عطورات الحسين” عوده الكمبودي واللبان الحوجري القادم من سمحان لعل عشاق الطيب ينجذبون لرائحته فيتزودون صوغات لأهل الخليج ، أو لعل النساك والرهبان يزهدون في أنواط البات فيشترون بها أعواد الند لبوذا.
وهنا تزدحم المطاعم بأهل الخليج فالحضارمة يشعلون تنانير خبز الملوَّح ، وصاحب مطعم “أبو دبة” ينحر الخراف لمراجل المندي فيجلس عشاق أطباقه تحت جدارية كبيرة لمدينة مطرح ، ومطعم اليمن السعيد يوقد النار على قدور الكوارع والبِرَمِ والسَّلْتَةـ والمثلوثة والزربيان.
وتفتح نفرتيتي المصرية ضيافتها لتقدم الطواجن والفطير المشلتت والفول مع شيشة المعسل التي يسافر مع دوائر دخانها القاتل عشاق السهر فيمضغون الوقت والحكايات بينما الشيشات تحرق قلوبهم وتجلب لرئاتهم السل وذبحات الصدر.
وتقدم مطاعم بغداد والبصرة الكبسة والسمك المسكوف للحالمين بعودة العراق لأيام ناظم الغزالي وجلسات الشاي على دجلة والفرات.
ويتداخل المطعم الإيراني “الشاطر” في المشهد التايلندي بالرز المزعفر وأسياخ الكباب والشيش طاووق ولبن العيران .
ورغم أن بانكوك مدينة شقية إلا أنها ليست بالسوء الذي يجعلها عاصمة للرجس.
ورغم أنها مدينة آثمة إلا أن هناك في بلداننا الاسلامية من ينافس هذه المملكة البوذية في اقتراف المحرمات.
والنانا هو الحي العربي النابض بالحياة والصورة النظيفة لبانكوك التي تطهرها مما علق بالذاكرة عن سجل سيئ السمعة فتدهش زوار الحي بأذاناتها التي تزلزل بوذا المتقرفص تحت قبابه الحمراء ، وتفرح العيون برؤية أفواج المتوضئين الذين يتاسابقون لأداء الفروض الخمسة على سجاجيد التسامح الديني في سيام.
وقد كنت ممن استبق الحكم على بانكوك كبؤرة غارقة في الفسق ، وكنت أرى أن وصفها بمدينة الأحرار لا يليق بما استقر في الذهن بأنها ليست حرة كما تدعي وأنها تجوع وتأكل بثدييها.
كما أن تسميتها بمدينة الملائكة كاحد تفسيرات كلمة بانكوك لا يجوز فالأليق بأن تكون مدينة الشياطين.
إلا أن من الإنصاف القول أن لافتات محلات “المساج” في بانكوك تبقى الأقل إذا ما قيست بتلك التي تتكرر في شوارع بعض عواصم العرب والمسلمين ، وأماكن الفجور والملاهي الليلية في بانكوك ليست بالإبتذال الموجود في بعض البلدان الإسلامية ، ولا بتلك الجرأة الصادمة في عواصم الحواضر المسيحية.
ورغم أن المسلمين لا يزيدون عن خمسة بالمئة من سكان تايلند ، إلا أنه مع ضآلة هذه النسبة فإنها تتمتع بوجود ٣٤٩٤ مسجدا في أنحاء تايلند تمارس فيها عباداتها بحرية ، ما يجعلني أعيد النظر في قناعاتي تجاه بانكوك كما رأيتها في النانا ، فهي مدينة تمشي على استحياء وتجلس خلف عربة فقرها بكامل حشمتها وهي تبيع جوز الهند والأناناس ، وتبسط سجادتها لتصلي في مكان عملها.
أما التايلندية غير المسلمة فكانت على الأغلب متعففة وغارقة في تأملاتها الروحية وفق فهمها المتوارث والذي تربت عليه ، فكانت تمر بتمثال بوذا في طريقها لعملها أو بيتها أو تتبضع في السوق وأينما لمحت وجه بوذا اقتربت في خشوع وقد ضمت كفيها محيية ، وانحنت إجلالا لعينيه ، وحرقت أعواد الند لنيل رضاه ، وقدمت بين يديه عبوات العصائر والمياه لعل هذا التمثال القادم من آلاف السنين والذي ينتشر على كل شبر من تايلند سيشعر بالظمأ فيحتاج لأن يشرب في خلسة من المارين فيستجيب لدعوات السائلين.
وعلى بعد خطوات من النانا ترتدي بانكوك روب الطبيب في “برومبراجراد” أكبر مستشفيات بانكوك وأكثرها شهرة حيث يستسلم الخليجيون لآلاف السماعات التي تستمع لقلوبهم المتعبة من طموحات الساسة وجنون السياسة فتتجول المناظير في أبدانهم لتفاجا بتشابه الأعراض والأمراض.
وكلما اختال جهاز “الألتراساوند” في الأبدان كانت الغصص واحدة ، وقد بلغت القلوب الحناجر ، فبعض الأمراض عضوية ، وبعضها مكتسبة بالوراثة وبعضها وليدة التناحر والإقتتال.
ورغم القرارات الجائرة التي فرقت أبناء المنطقة الواحدة إلا أن الغربة لملمت بعثرتهم ، فجعلتهم يتعكزون على بعضهم البعض ، ومتى ما استكمل المبضع التايلندي من استئصال أورام أجسامهم وجدوا أنفسهم رغم أنف الساسة وجور السياسة على أسرَّة نفس العنبر بالمستشفى يئنون معا ويبثون الزمان شكواهم معا.
وكلما خضع الخليجيون للقسطرة في “برومبراجراد” كانت كل الشرايين إلى قلوبهم سلسة باستثناء الترسبات التي تركها الساسة في الأوصال فأحدثت كل هذه الإنسدادات لمنع الدم الخليجي من أن يتواصل فأوقع أطباء “برومبراجراد” في حيرة من أمرهم بين أن يوسعوا شرايين المرضى ، أم يوصون بتوسعة شرايين امخاخ المسؤولين عن الإنسدادات ؟.
ورغم أن مروري لسيام كان سريعا وعابرا ولم يزد عن أربع ليال نصفها في المستشفى ونصفها في قراءة الوجوه الخليجية المتوجعة
ومعها سجلها المثقل بالإحباطات الناجمة عن السياسات التي لم يعتادوها إلا أنني حمدت الله فالعماني جاء إلى المكان مرفوع الرأس لا يشكو بل كان المستمع النبيل للشكاوى العربية.
وعاد شامخا وفي ذاكرته سجلا متخما بمعاناة الناس مع ساستها وسياساتها.
أخرج من عنابر العلاج وعنابر المرضى لأكرع في مقهى المستشفى مرارة قهوتي وأنا أسترجع سجل أعزاء جاءوا إلى المكان وعادوا بأكياس من الأدوية ووخزات في القلوب فبكيت رحيلهم ، وبكيت أمة عربية تتآمر علي نفسها ، وجزيرة عربية تحارب نفسها ، وخليجا عربيا يتآمر على نفسه.
وأخرج من المجمع الطبي المثقل بأنين الخليجيين لأستقل “تك تك” يهوي بي سائقه كالنجم على دروب يعرف مداخلها ومخارجها وكان علي أن أتشبث تارة وأرتفع تارة وأنزل مع ” التك تك” تارات لأدخل سلسلة مولات “سيام” و “أم بي كي” وغيرها من مولات العاصمة حيث تتفنن اللمسة التايلندية في إناقة العرض لجذب المشترين ، ولعلها تعوض بذلك خيبات أصحاب الماركات من النسخ المقلدة ، وترد لها الإعتبار الذي تدوسه النانا.
ولم يسمح قصر المدة لقراءة مشهد مملكة تنمو بطريقة مدهشة ، وتصحح أخطاءها وخطاياها لاستقبال ملايين السياح ، وتنظف سجلها السيء العالق في الذاكرة بزحزحة أماكن
اللهو والفساد إلى السواحل البعيدة.
وكما جئت إلى بانكوك والمدينة ناعسة العينين خرجت منها وهي تؤذن للصلاة من مساجد طريق المطار في “سوان لوانج” فكان أجمل وداع لمدينة لا يزال البعض يراها سيئة السمعة بينما أهلها يصفونها بمدينة الملائكة ومدينة الأحرار.
وتبقى بانكوك كما يقول الشاعر التايلندي أماتايا :
مليون قصيدة
تلقى في خيالاتكم
وتزدهر في مخيلتي
—————
بانكوك في ١٠ فبراير ٢٠١٨ م.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*