بركاء-منى المعولية | ما زال للحكايا بقايا وما زلنا برغم كل الألق والترف الذي حضينا به في حاضرنا الزاهر تأخذنا ذاكرتنا نحو عراقة ماضينا وأصالة تراثنا التي لا يكل القلب ولا يمل السمع عنها وترديد تفاصيلها والثناء على مقتنياتها و مكوناتها، بل حتى حيثياته وكيفياته.
مضينا تسبقنا أمانينا كتلك التي كانت قرب أبائنا حين كنا نراقبهم ببرائة الأطفال وهم متصافين بتلاحم جميل يرصون سعف النخيل ويربطونه بحبال ليفيه مكررين نفس الفعل بنفس التواتر حتى يصنعون ما يسمى ب (الدعن) ومجموعها دعون يراد بصنعها مآرب عدة لعل أبرزها بناء (السبلة).
ويسرد لنا الوالد خميس بن محمد البلوشي (أبو صالح) حكاياه الطفولية وهو الان في عمر ناهز السبعين عاما وعانقه، أخذنا بإسلوبه الشفاف ونحن نتجول في مزرعته التي باتت خاليه إلا من نخيل عتيقه كثيفه منها ما سبق عمرها عمره ومنها ما زرعها وحصدها ورواها بعرق أيامه وسهره، تظل الأرض المزروعة أو النخل كما تسمى في بعض القرى هي روح الإنسان العماني الأصيل، منها عاش وفيها نما ومن مواردها وسواقيها إرتوى وحتى من مشتقاتها بنى له سكنا ومأوى. وقد تكون السبلة العمانية خير دليل وشاهد على ما نقول قد لا نعي نحن اليوم ما تعنيه السبلة أو لعلنا قدمنا متأخرين عن أجيال سبقتنا كانت تعد تلك الغرفة المصنوعة من سعف النخيل أو (الزور) بمثابة ملجأ لهم ومقرا تقام فيه أفراحهم وأتراحهم، قد يستقبلون فيها المهنئين في مناسباتهم السعيدة أو المعزين عند وفاة أقاربهم وقد تكون السبلة منصة وملجأ ومنبرا لأرائهم ومقترحاتهم أو حتى مكان لحل خلافاتهم أو طرح مطالبهم وإحتياجاتهم ومكانا يعزز تكاتفهم وتلاحمهم وحتى تخاصمهم وجدالهم، كانت السبلة أو المجلس هي واجهة، بحيث يجتمع فيها أبناء المنطقة الواحدة، هناك السبله الخاصه في معظم الحارات وهي أن يكون لكل بيت ملحق مجلس أو عريش إختلفت التسمية والمقصود واحد بحيث يستقبل صاحب المنزل ضيوفه في سبلته وقد تحل السبلة الخاصة بشيخ الحارة أو كبير القرية محل السبلة العامة وتتلاقى معها بنفس إستخداماتها بحيث إن السبلة العامة ملتقى لأبناء القرية أو المنطقة حيث كان يتم تبادل الأخبار وحتى في أنشطة التجارة قد يتم التعاقد فيها والبيع والشراء وكل من يرغب في الحصول على المساعدة من أبناء قريته في بستانه أو أرضه. كان يعلن ذلك في مجلس السبلة ليتم مناقشتها، ويطول شرح الوالد خميس عن السبلة حيث إن مزرعته كانت ولا تزال حتى يومنا هذا المكان الذي يتجمع فيه الزفانة لصنع الدعون والمعاريض التي تستخدم في بناء السبلة والسجم وغيرها من المآرب والتي وإن مر الزمان وشاخ الإنسان تظل لها إحتياجاتها وتجددها برغم الحضارة وعصر السرعة الذي أبدل تلك الآثار والصناعات إلى شيء أقل جهدا وتكليفا ووقتا أيضا، قد تكون الإختصارات طغت على أكثر الأشياء، إلا إن بعض الأشياء تبقى بتفاصيلها أجمل.
ويسهب الوالد خميس ويمتعنا بحديثه وكأن كلماته آلة زمن وقتي تأخذنا إلى الماضي بتعمق جعلتنا نعيش الدور بإتقان نصول ونجول في سبل عمان ومجالسها وبين أروقتها وأفنيتها في جوانب لها كينونتها وروعتها وندخل عريش (السبلة) نتفقده لنرى مدى دقة صنعه وكيف سخر الإنسان العماني القديم من مواد الطبيعة المتوفرة حوله إلى بناء ومأوى وركيزة وشموخ يترجم واقعيته. يسترسل الوالد خميس (أبو صالح) ليشرح لنا كل ركن من أركان السبلة وكيف صنعت وما هي مكوناتها بحيث أشار إلى الرواحل (جذوع النخيل) التي يرتكز عليها العريش ومفردها راجله والمعاريض وأيضا تصنع من جذع النخله، جزء أخر من مكونات السبلة وهي الدعن التي ذكرناها وعرفناها سابقا بإنها عبارة عن سعف النخيل المصفوف أو المزفون والدعون تكون ثلاثة جوانب بالإضافه إلى سقف السبله أيضا، وقد يتمم السبلة من الجهة الرابعه أو الواجهة ما يسمى بالحصر وهو الزور المسحول (سعف النخيل بدون خوص) وباب السبلة أيضا قد يكون من الحصر أو الحطب وقد يضاف المنجل في بعض أنواع السبل وهو عبارة عن مساحة خارجية تكون أمام السبله متصله بها بمثابة الليوان تكون المدخل المؤدي إليها.
يضيف الوالد أبو صالح إن مساحات السبلة تختلف حسب مآربها والحاجة التي أعدت من أجلها فبعض السبل قد تحتاج من عشرين أو حتى ثلاثين مترا أو أكثر كما هو الحال في بعض المناطق التي تستخدم السبلة العامة لأبناء القرية ككل.
السبلة والضيافة والمضيف بدلتها البارزة المصنوعة من معدن النحاس بقهوتها ذات الطعم الأصيل والتي تطهى على الصريدان (موقد خاص من الطين وقوده الحطب يتم إعداد القهوة عليه) كل أولئك رافقنا في رحلة التعرف على السبلة ووقفت شاهدا على كرم وعراقة وذكاء الإنسان العماني وحذاقته ولا تزال مبادئه وعمارته وعمرانه يشار إليها بالبنان ولا يزال لنا في كل قديم حنين وفي جعبتنا قصص من الذاكرة ووقفة مع من بقى من أبائنا وكبارنا نرتشف رحيق ماضيهم المذلل لنا ونعيش وقائعه لأننا ذات يوم سنكون ماض لجيل قادم.
وصول السلطان قابوس الى أرض الوطن
الحمد الله على سلامتك يا حكيم العرب و راعي نهضة عمان الحديثة ، افتقدناك كثيراً ، حفظك الله في الحل و الترحال.
محمد بن مانع آل هتيله