مسقط- العُمانية | يعدّ متحف أرض اللبان واحداً من المعالم المهمة في مدينة صلالة، إنه يختزل مساحات كبيرة من التاريخ العُماني وبشكل خاص التاريخ البحري. ويضم المتحف قاعتين كبيرتين، تختزلان جوانب من التاريخ العُماني، الأولى هي القاعة البحرية، والثانية قاعة التاريخ. عند العتبة الأولى للقاعة البحرية، يشاهد الزائر مجموعة من السفن في مقدمتها مجسم لسفينة ” الغنجة”، وهي من أنواع السفن المعروفة في التاريخ البحري العُماني، وقد استُخدمت في التجارة بين عُمان وشرق إفريقيا والهند حتى القرن العشرين.
وتتمازج في “الغنجة” المؤثرات العربية والغربية معاً، إذ صُممت الروافد المستعرضة والشرفات الموجودة بالقرب من نهايتها بما يشبه السفن الأوروبية . كما تشير المصادر التاريخية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. وتذكر تلك المصادر أيضاً أن “الغنجة” استبدلت أشرعة مربعة غربية بالأشرعة المثلثة العربية.
بالقرب من مجسم “الغنجة”، يقع مجسم آخر لسفينة لا تقل أهمية عنها، هي “البوم” التي ظهرت في القرن العشرين رغم أن تاريخ استخدامها يمتدّ إلى عصور قديمة، حيث تتشابه في تشكيلة الهيكل مع السفن التي ظهرت منذ 500-1000 عام. وشاع استخدام “البوم” للأغراض التجارية عبر الجانب الغربي للمحيط الهندي والخليج. ويتراوح الطول الحقيقي للسفينة بين 15 و37 متراً.
ويجد الزائر نفسه وجهاً لوجه مع مجسم سفينة “مجان”، وهو إعادة افتراضية لبناء السفينة التجاربة التي يعود تاريخها إلى منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد اعتماداً على علم التصوير الجداري (الأيقونات)، وعلى الأدلّة المباشرة التي عُثر عليها في منطقة رأس الجنز بمحافظة جنوب الشرقية. ووفقاً للمجسم فإن “مجان” تضم حزماً من مادة القصب المربوطة معاً بحبال مرنة وغير سميكة، مع وجود حصير مصنوع من السعف والألياف لتغطية الهيكل المصنوع من القصب.
وثمة مجسمات لمرْكبات أخرى تتيح للزائر استنطاق تاريخها، مثل “البتل الحربي”، و”الشاشة”، و”الهوري”، و”البقارة”، و”البغلة”، و”الكمباري”. وهي تتراوح بين المراكب الصغيرة والسفن الكبيرة.
معرفة التاريخ
ويمثل البحر مدخلاً مهماً لمعرفة تاريخ شبه جزيرة عُمان (عُمان التاريخية)، واستطاع متحف ” أرض اللبان” أن يوظف مفردات علم البحر لاستقراء التاريخ، أو لفتح مجالات لقراءة التاريخ من زواياه التي تعطي أفقاً أكبر للرؤية.
ففي القاعة نفسها، هناك نسخة طبق الأصل من ختم من بلاد الرافدين يمثل آلة الشمس على ظهر قاربه يرجع إلى الفترة الأكادية (2334-2154 ق.م)، وهي مقدَّمة من المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. وليس بعيداً عن ذلك يشاهد الزائر لوحة مسمارية تمثل سجلاً يوثق النشاط التجاري خلال الألف الثالثة قبل الميلاد في منطقة جيرسو (حضارة بلاد الرافدين) وتضم قائمة بالمواد اللازمة لبناء السفن، وهي توفر معلومات قيمة عن أساليب ومواد البناء في تلك الحقبة، ومنها مادة القار المستخدمة في بناء سفينة “مجان”.
ومن بين المعروضات في هذا المجال، اسطرلاب النقاش للصانع أحمد بن محمد المهذب النقاش، ويعود إلى عام 1080؛ واسطرلاب النيسابوري للصانع السهل النيسابوري ويعود إلى عام 1299؛ والبوصلة، وهي عبارة عن مغناطيس يتحرك بحرية على محورٍ بحيث يشير طبيعياً إلى القطب الشمالي المغناطيسي. وقد صُنعت البوصلة التي يعرضها المتحف في المملكة المتحدة عام 1820.
الكرة السماوية
كما يعرض المتحف الكرة السماوية لعالم الفلك عبد الرحمن الصوفي، الذي عاش في الفترة (291-376هـ/903-986م)، ومن مؤلفاته “الكواكب الثابتة” الذي يعدّ من المخطوطات الرئيسية التي اشتهرت في علم الفلك عند المسلمين و يتميز بالرسوم الملونة للأبراج والصور السماوية.
أما قاعة التاريخ، فأول ما يقابل الزائر وهو يخطو إلى داخلها، خريطة ضخمة للسلطنة تجسد تنوعها الجغرافي. وإذا جال ببصره ناحية اليمن، سيشاهد مجسماً للفلج العُماني، وهو احد أهم معالم البراعة الهندسية والفكرية للعُمانيين. وكان نظام الأفلاج في عُمان قد اعتُمد في قائمة التراث العالمي الثقافي والطبيعي التابع لمنظمة اليونسكو عام 2006. يختزل المجسم حكاية الأفلاج من بدايتها إلى نهايتها. كما يقدم المتحف في قاعته الثانية مجموعة كبيرة من الآثار التي تعود إلى حقب تاريخية غابرة منذ العصور الحجرية. ويستطيع الزائر أن يقف على أقدم المستوطنات البشرية في عُمان التي تعود إلى 5000 عام قبل الميلاد.
قلعة شصر
ويعرض المتحف رسماً افتراضياً لقلعة شصر/ وبار، يبدو من خلاله أن القلعة عبارة عن مستوطنة متكاملة. وتشير المصادر التاريخية وكتابات قدماء الجغرافيين إلى أن موقع ” وبار” كان من المراكز التجارية المهمة، ومع اكتشاف الموقع بالأقمار الصناعية بدأت برامج المسح والتنقيب للتحقق من هويته وملامحه المعمارية. وتؤكد الدلائل أن الموقع كان مأهولاً منذ العصر الحديدي
إلى العصور الإسلامية المتوسطة، كأحد مراكز قوافل تجارة اللبان في جنوب الربع الخالي، ويبعد الموقع عن مدينة صلالة حوالي 170 كم إلى الشمال.
ومن بين ما يشدّ المرءَ في قاعة التاريخ، صورة كبيرة لوصول العُمانيين إلى الصين، حيث تُظهر الصورة الشيخ عبدالله العُماني يستقبله امبراطور الصين “جن سونج” عام 1050، والصورة بريشة البروفيسور يوجين هاربر جونسن.
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن العُمانيين وصلوا إلى الصين في أوئل القرن الثاني للهجرة ( منتصف القرن الثامن الميلادي)، وأن أول تاجر عُماني قام بتلك الرحلة هو أبو عبيدة عبدالله بن القاسم، فيما أقام تاجر ثري من ولاية صحار هو عبدالله العُماني، في الصين عشرات السنين، ولُقّب بـ”جنرال الأخلاق الطيبة”.
ومن بين الصور الأكثر إبداعاً، والتي توجد نسخ طبق الأصل منها في المتحف، لوحة التحرير ليوجين هاربر جونسن، والتي تجسد المعركة بين العُمانيين والبرتغاليين. ويرسم الفنان نفسه لوحة تمثل وصول أحمد بن النعمان إلى ميناء نيويورك في 30 إبريل 1840 كمبعوث إلى الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَل السيد سعيد بن سلطان.
اتفاقيات
ويقرأ الزائر على أحد جدران المتحف جزءاً من نص الاتفاقية التجارية الموقّعة عام 1844 بين عُمان وفرنسا، وجزءاً من نص اتفاقية الصداقة والتجارة والملاحة بين عُمان وبريطانيا الموقّعة عام 1839.
ليس هذا كل شيء في قاعة التاريخ، فهناك الكثير من المفردات التي تشدّ الزائر وتحكي على مسمعه تفاصيل حكاية عُمان التاريخية، وهو ما يجعل متحف أرض اللبان من أهم المتاحف في السلطنة، بل وفي المنطقة بعامة.