مقال| قرانا العُمانية.. كنوز مستدامة تحفظ روح الأرض وثقافة الإنسان 

يكتبه: خلف بن سليمان البحري| 

في الزوايا الهادئة بين الجبال المهيبة، وعلى أطراف الوديان المتعرجة، تختبئ القرى العُمانية كقطع لؤلؤية تتألق وسط الطبيعة الخلابة. هي ليست مجرد تجمعات سكنية، بل هي أرواح حية تروي لنا قصة التعايش المثالي بين الإنسان وأرضه، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في مشهد من التناغم الفريد. 

قرى عُمان ليست مجرد أماكن للعيش، بل هي مرايا تعكس البساطة والجمال والتاريخ، مشبعة بكل ما هو أصيل وطيب. ولكن وسط هذا الجمال الطبيعي، هناك تحديات كبيرة تهدد استدامة هذه القرى.

 فبينما تأتي السياحة كنقطة قوة، تحمل أيضا أعباءً بيئية واجتماعية قد تغير الوجه الحقيقي لهذه القرى. فالتوسع السياحي غير المدروس قد يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية، وزيادة التلوث، وتهديد التراث الثقافي الذي يميز هذه القرى. 

ومع ذلك، فإن استدامة السياحة في القرى العُمانية ليست مجرد قضية بيئية أو اقتصادية، بل هي قضية وجودية. إن الاستدامة هنا تعني الحفاظ على روح المكان، وحماية الأرض التي قدمت للأجيال السابقة ما يعينهم على العيش. ولابد من تقديم هذا الجمال الطبيعي للأجيال القادمة. 

فالحفاظ على البيئة ليس فقط للحفاظ على المناظر الطبيعية، بل هو أيضا حماية للأرواح التي تعيش في هذه القرى، وللقيم التي تشبع بها ثقافتنا. البيئة في القرى العُمانية تتناغم مع الحياة البسيطة التي يعيشها سكانها، والذين يعتمدون على الطبيعة في تلبية احتياجاتهم.

 إن استخدام المواد المحلية في البناء، مثل الطين والحجارة، لا يقتصر على الاقتصاد، بل يعكس احتراما عميقا للبيئة. فهذه المواد تتنفس مع الجو، وتتحمل التقلبات الجوية دون التأثير على البيئة. وفي الوقت نفسه، تساهم الأنظمة القديمة للري في توزيع المياه بشكل عادل ومتوازن بين الأراضي الزراعية، وهو ما يعزز من قدرة هذه القرى على الاستمرار دون الإضرار بالأرض.

 لكن مع تزايد أعداد الزوار، تصبح هذه الأنظمة القديمة في خطر. فإغراق القرى بأعداد هائلة من السياح من دون خطط واضحة قد يسبب تدهورا بيئيا يؤدي إلى التلوث، استنزاف المياه، وزيادة الضغط على نظم الري. وهنا يظهر دورنا في صياغة سياحة مستدامة تأخذ بعين الاعتبار توازن الحياة الطبيعية وحقوق الإنسان.

 في هذا العصر الذي يزداد فيه تأثير التقدم التكنولوجي، يمكننا استخدام أدوات العصر الحديث لصالح الاستدامة. من خلال تطبيقات ذكية ومواقع إلكترونية، يمكن توجيه الزوار إلى المناطق الأكثر استدامة وتثقيفهم حول كيفية الحد من تأثيرهم البيئي أثناء زيارتهم. بل يمكن استخدام التكنولوجيا لتحليل تأثيرات السياحة على البيئة والتأكد من أن الأنشطة السياحية لا تؤدي إلى تدمير البيئة أو تهديد النظم البيئية المحلية. 

كما أن تقنيات التواصل الحديثة يمكن أن تساعد المجتمعات المحلية على تعزيز ممارساتهم البيئية من خلال مشاركتهم في منصات تهتم بالترويج للسياحة المسؤولة. بهذه الطريقة، يمكن للقرى العُمانية أن تصبح نماذج حية تدمج بين الأصالة والتطور، وتكون في الوقت ذاته وجهات سياحية تجمع بين الراحة البيئية والاهتمام بالثقافة.

 إن الحفاظ على البيئة ليس هو الهدف الوحيد من السياحة المستدامة في هذه القرى، بل لا يمكننا الحديث عن استدامة دون الحفاظ على الثقافة والهوية. فالسياحة هي فرصة لاكتشاف أساليب الحياة التقليدية، الحرف اليدوية، والموسيقى التي ما زالت تشكل جزءا حيويا من المجتمع المحلي. هذه الثقافة العُمانية الأصيلة تُنقل من جيل إلى جيل، ولكن مع تغير الزمن واندماج الأجيال الجديدة في العصر الحديث، أصبح من الضروري الحفاظ على هذه الهوية وحمايتها من الاندثار.

 وفي هذا السياق، تلعب السياحة المستدامة دورا محوريا في دعم الاقتصاد المحلي، من خلال استثمار موارد هذه القرى التي تجذب الزوار الباحثين عن تجارب حقيقية بعيدًا عن الزخارف الحديثة. ولكن يجب أن يكون هذا الاستثمار دائمًا في صالح المجتمع المحلي وليس على حسابه. 

في النهاية، إن استدامة السياحة في القرى العُمانية تتطلب وعيًا جماعيًا يشمل الجميع: السكان المحليين، الزوار، والسلطات المعنية. من خلال التثقيف المستمر حول أهمية حماية البيئة والتراث، يمكن للجميع أن يكونوا جزءا من هذه المهمة المقدسة. الزوار الذين يحترمون الطبيعة ويعتنون بها أثناء رحلاتهم، والسكان الذين يواصلون العيش بأسلوب حياة مستدام، جميعهم يسهمون في جعل هذه القرى رمزا للعيش المشترك بين الإنسان والطبيعة. ختامًا، القرى العُمانية ليست مجرد أماكن سياحية، بل هي موروث حي ينطق بالحكايات ويصمد أمام اختبار الزمن.

 إن مسؤوليتنا اليوم تكمن في أن نكون حراسا لهذا الجمال البكر، وأن نترك أثرنا في هذه الأرض بشكل يجعلها تزدهر وتستمر للأجيال القادمة. لنحافظ على هذه الكنوز ونحترمها، لأن فيها حكاية كل عماني، وتاريخ كل حجر، وروح كل شجرة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*