مرافئ | سعود الخليلي.. وفي البدء كانت “الكلمة”

بقلم- حمود بن سالم السيابي | حين أراد الشيخ سعيد بن حمد الحارثي نشر اللؤلؤ الرطب، كان الزمان غير الزمان، فتناثر اللؤلؤ قبل أن يتباهى به جيد عمان، ورحل الشيخ وفي قلبه غصة لاضطرار عمان ارتداء عقدها اللؤلؤي في السر.
وبإلحاح من (إيكلمن ودنيسن) صاغ الشيخ أحمد بن محمد الحارثي ما يسمح به الزمان عن أروع فصول الزمان، ومع ذلك لم تتمتم شفاه المطابع بمذكرات رجل بحجم حفيد عيسى بن صالح فغاب الرجل، وبقيت المذكرات في عهدة  الإنترنت، من دون أن تتبوأ موقعها الذي تستحقه في الفهرسة العالمية وأرفف المكتبات، رغم أن كاتبها أحد صناع المشاهد، والشاهد الباقي للكثير من المشاهد.
وكتب أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي رائعته التاريخية (الحقيقة) ومهد لها بقوله “لا يزال الباطل سبعا ضاريا يفترس الحقيقة في مسرحها ويقض مضجعها في مأمنها ” وبقيت جملة الشيخ ترن بقوة في الأذهان وتطرح أسئلتها الكبيرة، حول بقاء المذكرات بخط الشيخ نفسه من دون طباعة حتى الآن، واقتصار تداولها على  الأحباب. رغم أن ما جاء في (الحقيقة) صدح به بلبل الشعر في ألف قصيدة وقصيدة.
وكان الشيخ سعود الخليلي آخر الفرسان الذين يتأبطون الزمن ويقررون كسر الصمت، فيمتشق قلمه ليحلق بالقراء في عوالم برزة نزوى ومجالس قصري العلم والحصن، وبيوت سحرا والسبحية والباروني والظاهر، وليقول (كلمته) في المسكوت عنه وفي المحظور نشره لسنين.
ومن الحاضر المضبب بمحطات البنزين ومصانع المشروبات الغازية والبنايات والأرصدة يبتعد الشيخ سعود الخليلي إلى الذرى المسيحية في جبال لبنان، ليمد رجليه في شرفة بيته في ظهور الشوير، وتحته جبل صنين ببلوطه، وكسروان بصنوبره، وصوفر بأديرته، وبين كل ذلك أودية المتن الشمالي التي تحرض بخريرها امتشاق القلم واشتهاء الكتابة ليستعيد الأيام العمانية  حيث عمه الرضي الخليلي يشع في الزمن النزوي وحوله عمان تركض بخيولها المجاهدة أشواطها الأخيرة.
ويقلب في الذاكرة المزحومة همما وهامات فيشع قصر العلم حيث السلطان سعيد بن تيمور يحرق جمر الوقت ليرفع الراية البوسعيدية على سارية الشهباء، وليضع جبهته حيث سجد أسلافه اليعاربة على محراب نزوى، وليرتقي منبر ناصر بن مرشد وقيد الأرض والرضي الخليلي ليلقى خطبة الجمعة عن الوحدة العمانية.
وعلى كؤوس الشاي المفعم بالميرامية والمعطر بصوت فيروز يجول الشيخ الخليلي في سالف العصر فيتذكر أبا عزان وقصة النزاع على بيت الباروني ذلك الليبي القادم من جبال نفوسة الراعفة بالإستشهاد، والمسكون بحلم  إنشاء مدرسة عصرية في عمان، وقد أتم الباروني بناء المدرسة بشلنجات أثرياء زنجبار ولكنها لم تعرف رنين الجرس ولا بياض الطباشير إلا بعد أن أصبح الشيخ سعود الخليلي وزيرا للمعارف، فقد مات الباروني في بمبي وطويت صفحته المتلألئة بشمس الخليلي وقمر أيام السلطان سعيد بن تيمور، ومات معه حلمه وتوارث الناس البيت.
وحين آل بيت الباروني إلى الشيخ سعود وجد من ينازعه عليه فركب الشيخ دابته إلى صلالة في رحلة كرحلات (ثيسيجر) وفيها نفس النياق ونفس البدو ونفس المرارة حتى وصل صلالة ليحل ضيفا استثنائيا على سيد قصر الحصن، وامتدت الضيافة لاشهر وجاء عيد الفطر وذهب ليصلي مع المصلين ليجد من يستدعيه ليركب السيارة السلطانية مع جلالة السلطان سعيد بن تيمور ونجله الميمون، في التفاتة سلطانية لقادم من العبق النزوي والفردوس السمائلي.
ويتذكر الشيخ سعود الخليلي عودته من صلالة بجيوب مملوءة بالقصائد لسلطان عماني هو الشاعر السلطان سعيد بن تبمور الذي ألهمته ظفار البوح شعرا فقرض الشعر وترنم بأشعار الآخرين، وأفسح في بلاطه مكانا للسيد هلال بن بدر وقضاة مسقط ليزينوا حيطان الحصن والمعمور بالمعلقات العمانية.
ولأن بيت ظهور الشوير المتسنم ذرى التاريخ والمعجون باللقى الأثرية لبقايا أعمدة يونانية وأفاريز رومانية وحراب سبرطة وقطع من زجاج أيقونات أديرة المتن، فقد إختار رجال حافظ الأسد نفس البيت مقرا لصبط  الهيستيريا اللبنانية، وبعد أن اشترى الشيخ الخليلي البيت من مالكه اللبناني حرص الشيخ على أن يحتفظ المكان بما يليق وماضي أيامه، فحقق توأمة بين بيت ظهور الشوير وبيت الباروني، وبين وادي المتن وشرجة الإبراهيمية، وحفرالشيخ بئرا، ومد في أرضية حوشه سندسا أخضر يليق بذرى صنين وصوفر وكسروان، فكان الماء زلالا كماء (عين ورد) بسمائل ومتدفقا كغزارة أفلاج السمدي والمريفع والقلعي وأبوغول، وجلب إليه أشجارا من الجبل الأخضر وربى الفيحاء.
وحين تتوق روحه للتاريخ ينتزع الشيخ الخليلي نفسه من مشاغله ومحطاته وأرصدته وبيوته فيأتي إلى لبنان ليقلب في الزمان بتحريض من عراقة المكان، وما أن يحط الرحال في المكان إلا وتتدافع الأحداث، فيتذكر أول يوم للإمام غالب بن علي في نزوى حين جلس الإمام الجديد يقلب دفاتر دولة الإمامة فلا يرى أسماء المشايخ هلال وعبدالله وسعود أبناء علي بن عبدالله الخليلي في كشوفات الرواتب فيرد الشيخ سعود عليه أننا لم نعمل مع إمامنا برواتب.
وفيما تترنح صنوبرات صنين ويصل همسها إلى أذني الشيخ الخليلي تترنح الأيام فتحضر في الذاكرة مشاهد  صعود الإمام غالب وبن حمير ذرى الأخضر ليكونا بعيدا عن متناول سلطة الدولة الجديدة فيحتويهما كهف النضد ويصد عنهما ضربات الطائرات، فيما يدخل الشيخ سعود الخليلي مع السيد طارق بن تيمور ثكنات الجيش العماني ويحضران جانبا من نقاشات القادة العسكريين حول خطط كسر تحصينات هذا الشامخ العماني، ليسهل صعوده واختراق أسراره.
وتهفو نفس الشيخ للنزول من ذرى صنين إلى بيروت عبر (بكفيا) وتنزل معه هواجس الكتابة فلا يغمد قلمه ليدع  لبنان تتأنق بمصايفها ومشاتيها ورموزها ومزاراتها في مذكراته فيستدعيها وهو يمر على (بعبدا) ليتذكر أول زيارة له بتوجيه كريم من سيد عمان وسيد نهضتها الزاهرة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم حين أوفده مطلع النهضة العمانية لزيارة عواصم العرب  والإجتماع بقادتها، فكانت بيروت إحدى هذه المحطات، وكان سليمان فرنجية أحد أولئك الرؤساء، فيتذكر الشيخ سعود كيف كان يومها ضيفا رسميا على لبنان جاءها ليمد يدا فينيقية تصافح يدا فينيقية أخرى، فيما يطرق اليوم دروب لبنان بسيارته من مطار رفيق الحريري إلى عتبة بيت ظهور الشوير ليمضي تحت علمها المطرز بالأرز  بعضا من شهور السنة كمواطن في ذرى لبنان، يشرب من نبعها، ويدفع الضريبة لخزينتها، ويتفيأ ظلال شجرة كتب تحتها جبران أجنحته المتكسرة وليدخل محترف لويس معلوف حيث اشتغل على كتابه المنجد، ويستمتع بزلال ينابيع لبنان مع صوت فيروز وهي تشدو قصيدة سعيد عقل “غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعي عيدا “.
ويختتم الشيخ مذكراته بالعهد الزاهر الميمون لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- ليدع فجر النهضة المباركة يملأ صفحات المذكرات ضياء فينقل قراءه إلى بشارت عام السبعين واختياره وزيرا  للمعارف في أول تشكيل وزاري عماني وترؤسه لوفد الصداقة العمانية، ثم انتقاله إلى مصر كسفير لصاحب الجلالة في أرض الكنانة وتشرفه بمرافقة جلالته في أكثر من زيارة ومؤتمر، حيث تخضر الصفحات بضفاف النيل، وتتدفأ بوشائج عميقة مع رجالات مصر .
ويبقى كتاب (كلمة) كما أسماه الشيخ عنوانا لمذكراته أو ذكرياته مهما بأهمية كاتبه، فهو سليل بيت شريف يشع بالأئمة والأخيار، وعايش المنعطفات الفاصلة في التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان له شرف تسليم وديعة عمه الإمام الرضي للإمام غالب.
وإذا كان (لوجو) الصدفة الصفراء والحمراء لشركة (شل) وغيرها من أسماء محطات بيع البنزين التي تنغرس سواريها في الشوارع لتدل السائقين على المحطات تضاء بالكهرباء، فقد ينطفىء (اللوجو) يوما، وقد يسقط بفعل العواصف، وقد تتناقل الملكيات بين أكثر من مالك بعد عمر طويل، إلا أن غلاف كتاب (كلمة) ما أن تغرب عنه الشمس في المساء، يستقبلها مع شروق اليوم التالي بنفس الوهج، وكلما تقادم العهد بالكتاب ازداد قيمة وقامة.
ويبقى الكتاب مقترنا بمؤلفه إلى الأبد، فالأغاني لا يزال يحمل اسم الأصفهاني، ومالك لا يزال يشرح لطلاب النحو كتاب الألفية، وابن عبد ربه يشع في غلاف العقد الفريد، والجاحظ لن يتخلى عن البيان والتبيين ورغم تقلب الزمان لا تزال المقامات مقرونة بالهمذاني بديع الزمان.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*