مقال| العيد الذي يسبق العيد

يكتبه: حمدان البادي|

من لم يسبق له حضور الأسواق الشعبية، وتحديدا الهبطات التي تسبق الأعياد في سلطنة عُمان، فقد فاته جانب أصيل من التجربة الحياتية التي لا تزال تحافظ على حضورها رغم الطفرة الكبيرة في التسوق الإلكتروني، والتي باتت تشمل كل شيء، حتى بيع الماشية والثيران.

وكما يقول المثل: “اللي ما يشتري يتفرج”، فإن هذه الأسواق تتحول إلى أعياد تسبق العيد، حيث يجتمع الناس من مختلف القرى للفرجة والشراء، ويعرضون ما تيسر لديهم من بضائع في مشهد يعيد إلى الأذهان مفهوم المقايضة، إذ يبيعون ويشترون بذات المبالغ.

وإذا كانت هذه الأسواق تشتهر بعرض المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية، فإنها تمتد أيضا لتشمل العديد من مستلزمات العيد التي يحتاجها العمانيون، مثل خلطات الشواء، وأعواد المشاكيك المصنوعة من “زور” النخيل، وخصفة التنور، إضافة إلى مستلزمات الزينة الرجالية، كالعصي والخواتم والملابس والخناجر والأسلحة في بعض الهبطات، فضلا عن منتجات متنوعة تخضع جميعها للمزايدة.

وسط هذا التنوع، تبرز عرصة الهوش كإحدى أبرز فعاليات السوق، حيث تُعرض الماشية ويتم المزايدة عليها من قبل دلالين محترفين، أتقنوا فنون هذه التجارة بأصواتهم وما يصاحبها من كلمات تعطي لكل دلال هوية، بينما يستعرض المشترون خبراتهم في انتقاء أجود أنواع الأغنام والابقار والخرفان، مع إقبال لافت على العروض المميزة. ويحدث أحيانا أن ينسل ثور من بين يدي صاحبه ليعيد تشكيل المشهد ويبعثر هدوء الحضور ويدخلهم في حالة من المغامرة والتحدي.

قبل سنوات، حملت كاميرتي وتوجهت إلى أقرب هبطة بهدف توثيقها عبر الفيديو والتقاط بعض الصور الفنية، لم يكن لدي تصور مسبق لما سأجده، فتركت الأمر لما يجود به السوق في ذلك اليوم، وكانت النتيجة فيلما وثائقيا قصيرا، لفت انتباهي فيه تداخل جيلين داخل هذه الأسواق:الجيل الأول، ويمثله كبار السن، هم امتداد لما تشكلت عليه هذه الأسواق، وهم الذين لا يزالون يرون في الهبطات مناسبة اجتماعية استثنائية قبل أن تكون سوقا تجارية، حيث يبكرون إليها بكامل زينتهم، سواء كانوا بائعين أو مشترين أو مجرد متفرجين.

بينما يتعامل الجيل الثاني، وهم الشباب مع هذه الأسواق بمنظور مختلف، حيث يحضرون إليها بجلابيات النوم والملابس الرياضية، ويبحثون عن فرص للربح السريع، فيصبح بعضهم دلالين، بينما يلجأ آخرون إلى إنشاء عرصة موازية، أشبه بالسوق السوداء، حيث يشترون المواشي خارج الساحة الرسمية ثم يعيدون بيعها لاحقا، مما يمنحهم فرصة للتحكم في الأسعار. بل إن بعضهم يطور الأسلوب التقليدي إلى مزادات حديثة تُقام مساءً، حيث تصطف المواشي على مسرح أمام الجمهور في مشهد أكثر تنظيماً.

هبطات العيد والأسواق التقليدية الموسمية يجب أن تكون ضمن خارطة السياحة المحلية، خاصة بعد إعلان وزارة التراث والسياحة مؤخرا عن مبادرة “جولة عُمان الكبرى”، التي تهدف إلى إعادة اكتشاف البلاد من منظور جديد، وإثراء المشهد السياحي بتجارب متنوعة تشمل المغامرات والأنشطة الثقافية، ما يتيح للزوار فرصة التعرف على التقاليد العُمانية الأصيلة، بما في ذلك الأسواق الشعبية التي تعكس روح التراث والتجارة في آنٍ واحد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*