بقلم: حمود بن سالم السيابي | فريدريكو مايور صيدلاني من برشلونة، عشق ولادة بنت المستكفي وقصائد ابن زيدون، وذاب في بني الأحمر ودولة بني الأغلب، واستوحى من رايات الأمويين كرافتة بدلاته، ومن أشرعة سفن طارق بن زياد شالات العنق . ورغم عدم إتقانه العربية إلا أنه عشق حروفها، فانشغل بأسرار قصر الحمراء، بحثا عن شعار لا غالب إلا الله . وعن القصائد الأندلسية التي تتناغم وزخارف الأسقف والأقواس والشرفات. أوصلته بلاده لرئاسة اليونسكو ليكون حارسا للثقافة الأممية ومسؤولا عن الإرث الإنساني. وبدلا من أن يصرف الأدوية للمرضى الأسبان في صيدليات مدريد، كان يحمل لواء “دمقرطة القراءة” في العالم، ويزرع في وجدان الإنسان حب الكتاب. إلتقيته في غرناطة على سفح قصر الحمراء في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ضمن وفد عربي ضم الدكتور جابر عصفور وزير ثقافة مصر الحالي والشاعرين أدونيس وشوقي عبد الأمير، والصحفيين نبيل الحمر مستشار ملك البحرين، وعبدالباري عطوان صديق بن لادن والضيف الدائم للبي بي سي والمنار والميادين، ورؤساء ومدراء تحرير عدد من صحف الخليج والشام ومصر والدول المغاربية.
وكان الحديث مع مايور عن نجاح مشروع “كتاب في جريدة” الذي تبنته اليونسكو ونهضت به صحف هافانا وسنتياجو وبيونس آيرس وكاركاس وغيرها من دول أمريكا اللاتينية ودول الفناء الخلفي لواشنطن، وإمكانية تعميم المشروع لصحف أمة إقرأ التي لا تقرأ. يومها كانت هواتف “سيمنس والكاتل وموتوروللا واركسون” نادرة، وتدخل الجيوب على استحياء، وكان المقتدرون فقط يقتنونها لغرض الإتصال لا أكثر، كونها حلت محل هواتف “الدانكل” في السيارات، فلا برامج فيها ولا “واتس ولا فيسبوك ولا أيميلات”.
وكانت غرناطة يومها ككل مدن أوروبا تقرأ كل شيء، وتستمتع بالقراءة فوق وتحت كل شيء. وكان الكتاب رفيق الأوروبي في الحافلة والترام والقطار، وجليسه على مقاعد “ستاربكس وكوستا” يشاركه رائحة البن، ورغوة الكباتشينو . وحتى المدن العربية المشاطئة لأوروبا ترك فيها الطليان والفرنسيون بعضا من ثقافاتهم، فشارع الحبيب بورقيبة في تونس كالشانزليزيه يتضوع بنا وتبغا وكتبا، وأبناء الدار البيضاء يقرأون وهم يحتسون كؤوس “الأتاي” وشارع الحمراء في بيروت يعج بصخب اليسار واليمين، فيقرأ رأس المال لماركس والحقيقة الغائبة لفرج فودة ويصدح بقصائد نزار وهو يدخن، ويحاكم عنصرية سعيد عقل وهو يحتسي القهوة التركية، ويتجمهر في مقاهي السوليدير والضاحية والشياح للحديث عن آباء الإستقلال رغم أن بيارق حزب الله وحركة أمل وصور الخميني والخامنئي على الحيطان.
وبعد سنين على لقاء غرناطة كنت في “لوبيك” الألمانية الصيف الماضي وهي بلدة صغيرة على أطراف هامبورغ تتنفس بحر البلطيق وتتباهى بكنائسها القوطية، وتتفاخر أنها رغم صغرها أهدت ألمانيا ثلاثة من حملة جائزة نوبل، وعلى رأسهم “توماس مان” صاحب رواية السقوط البطيء لعائلة البودنبروك.
جلست في الفندق الممتد إلى البحر أتفرس وجوه الحضور تحت رذاذ سماء البلدة وتكسرات أمواج البلطيق، علني استطيع قراءة عناوين الكتب التي تقرأ، أو أسافر في روعة تصميم الأغلفة على الأقل، ولأتتبع سلوك الأوروبي في حضرة الكتاب، فكانت الصدمة أن كل الحضور يتصفحون شاشات “الآي فون والجلاكسي والآي باد” باستثناء امرأة عجوز تتلألأ السنوات خلف سمك نظارتها وهي تحتضن كتابا وتتثاءب.
إن لوبيك البلدة “الهانزية” المثقفة لا تقرأ هي الأخرى، وإنها تتدحرج ككل شيء نحو السقوط البطيء كما يشير عنوان الرواية اللوبيكية.
استدعيت من الذاكرة السيد فريدريكو المجنون بدمقرطة القراءة ليأتي وينتحر، فغرناطة تقلب في مسجات “الواتس اب” وبرشلونة تتصفع مواقع اللاعبين في “فيسبوك”، ومدريد تسن قرون ثيرانها لمباراة دموية منقولة “أون لاين” على الأجهزة النقالة، ومقاهي الحي اللاتيني في باريس تتهيأ للجيل الجديد من الجلاكسي، والمقاعد الخشبية في الهايدبارك في لندن خالية من الجلاس لأنها خارج نطاق “الواي فاي”. وضفاف بحيرة جنيف لم تعد تتلألأ بانعكاسات لافتات الماركات العالمية على صفحتها المزحومة بأضواء شاشات الهواتف الذكية.
تساءلت عن ذلك الأوروبي الذي كان يشعرنا بالنقص وبالتقزم تجاهه، وهو يتطاول علينا بالقراءة ليختزل طول رحلة القطار من العاصمة إلى بلدته في الريف الأوروبي القصي، بينما ننشغل نحن باستعراض الخيول وهي تتابع من نافذة القطار، وبألوان البقر ووداعة الأكواخ وهي تتوالى أمامنا، ونحن نتلهى بمضغ علكة “إكسترا” وبتقشير الكستناء المشوي لنحرق ملل الرحلة وبرودة العربات.
ولعل أكبر تحول أوروبي يدفع فريدريكو مايور ليلقي بنفسه في بحيرة “ألستر” الهامبورغية هو ذلك المشهد الذي يتجلى في هامبورغ، حيث يتجاور مبنى “الأبل ستور” والمكتبة في “اليوروباساج”، ففي المبنى زحام كسوق الجمعة، ولمقابلة المسؤولين فيه يشترطون عليك حجز المواعيد، وفي المكتبة الهامبورغية بائعة ضجرة تتصفح مسجاتها الحميمية الدافئة، وزوار يدخلون المكان بالخطأ ليسألونها عن محطة الهابنهوف.
وحين بحثت عن الشاعر شوقي عبدالأمير الذي دعانا لمقابلة فريديريكو مايور في غرناطة من أجل دمقرطة القراءة تفاجأت أن شوقي نفسه هجر الكتاب، وأنه أصدر من الشارقة ديوانا تحت عنوان “الديوان الإفتراضي” ليلائم جيل النت والعالم الإفتراضي.
ومن محاسن الصدف أن أوروبا وهي تترك عرش القارة الأكثر قراءة نتحسس نحن في عمان بوادر تغيير ثقافي ومؤشرات صعود نحو القمم، لنغرس عناوين كتبنا في الأمكنة التي تتنفس الزعتر والعلعلان.
ومما يثلج الصدر أن بعض رجال المال والأعمال عندنا يتجاوبون مع فريدريكو مايور في بدلته وكرافتتة، ويرفعون نفس شعار “دمقرطة القراءة” لينثروا في الأجواء ديمة الحروف وزنابق الكلمات بعد أن اكتشفوا أن التوقيع على الإهداءات في حفلات تدشين الكتب ربما أبقى للأسماء من التوقيع على الشيكات. ولذلك اندفعوا بقوة السيارات التي يحملون توكيلاتها ليتصالحوا مع المجتمع، فيؤلفون الكتب، ويدعمون صناعة الكتاب، ويقيمون المتاحف التي تضم مقتنيات الأسر في سالف العصر، فيحتفون بالمسابيح والخناجر والعصي والرسائل، ويكسرون حصار الأرقام الفلكية لأرصدتهم البنكية، فيهجرون المكاتب الفارهة، ويحملون الكاميرا التي تترنح بشريط على الأعناق ليمارسوا متعة مراقبة شروق الشمس في “مغب”، وتصويب فوهة “الزوووم” نحو عقعق يحتمي بغدر نخلة عوانة من مخاتلة القابض على زناد السكتون في نزوى، ويتتبعون السلاحف الخضراء تكتب قصائدها على الرمل وهي تزحف نحو البحر في رأس الحد، ويلقون زخات ضوء كاميراتهم على برقع بدوية تتلفع الحشمة والحياء في باديتنا العذراء، ويرصدون قمر سمحان يتسكب شلالات من أضواء فيتدفق دربات ماء وعطرا وكريستالا.
إلا إن المبادرات الثقافية لرجال المال والأعمال يجب ان تخرج من الهواية الفردية التي تمارس كمتعة، إلى إسهام حقيقي في الفعل الثقافي، وإلى داعم كبير لبرامج المؤسسات الثقافية، وألا يقتصر شعار تعميم القراءة على توفير الكتب وتخصيص الأمكنة للقراءة، بل يتعداه إلى ما يلائم العصر وينبض بروحه ولغته، فالكتاب الذي بدأ على كتف جمل هو اليوم على شريحة بحجم البازيلاء تتزاحم فيها مكتبات بكاملها.