بقلم: حمود بن سالم السيابي /
كانت نزوى سجادة الوالد ومحرابه، وكانت ترنيمته الطويلة في سبلته السمائلية “الصافية” ؛ وكنا نصحو مع تباشير الصباح للحديث في “الصافية” عن الوارث بن كعب، ونشم في فناجين قهوتنا – دارس والشهباء واليعاربة -.
وقبل أن يدخل التلفزيون حياتنا كانت دموع الوالد شاشة البلازما التي تنقل لنا مشاهد الأئمة بتقنية “الأتش دي” الثلاثية الأبعاد، فنعيش الوجوه الوضيئة والعمائم والمعارك والمجد .
وكان يجمعنا سطح البيت في الفيحاء وتكون نزوى قمرية المكان وعطره، ويكون الإمام سالم بن راشد شهيد عندام وكراماته مستفتتح حديث الوالد، وسيرة الرضي أبي الخليل مسك الختام.
ولم تكن “بيضة الإسلام” بهذا القرب الذي تقطعه السيارات اليوم، فقد كانت بعيدة جدا، أو خيل لنا كذلك أنها بذلك البعد، وأتذكر أول زيارة لنزوى بصحبة الوالد في ستينيات القرن الماضي، فبعد أن تركنا وراءنا بلدة فرق ولاحت لنا الحوراء سرت قشعريرة في النفس، وهي ذات القشعريرة الجميلة التي انتابتني وأنا أكتحل بالكعبة المشرفة في أول عمرة أديتها، فالمدينة الطاهرة التي كنا نراها مكبرة في دموع الوالد ها هي شاخصة أمامنا، حيث الملائكة تتنزل من السماء إلى أكثر من قبر، وحيث رياض الجنة تتجلى في حلقات الذكر في أكثر من جامع ومسجد، وحيث دارس وضوت والغنتق تجري وتجري معها سير من توضى وشرب.
كانت نزوى الستينيات كما عرفتها هي ذاتها التي تسكبت من عيون والدي في القمرية، وقرأتها في “تلك البوارق حاديهن مرنان” وهي ذات البلدة التي شممتها في تحفة الأعيان.
و لم يكن بدروب نزوى وقتها بنطلونات، ولا لافتات بالإنجليزية على المحلات في العقر وسمد وسعال، وكانت بها الكثير من “السياكل” والقليل من السيارات.
وحين أخذنا الوالد إلى مقبرة الأئمة بجوار برج القرن، كان كل التاريخ الذي قرأناه يتلألأ على شواهد القبور، وكانت سفائن بن مرشد تذيق البرتغاليين الهزيمة والخزي والإنكسار، وكان الإمام اليعربي يخط بغضب البارود على صفحة البحر – الإسلام وعمان والعروبة واليعاربة –
وكان سلطان بن سيف يسلم على زائري مضجعه بيد مخضبة بالأديم النزوي وكأنه انتهى لتوه من بناء الشهباء بغنائم معركة “ديو” وكأن أسطوله يهيمن على اليم الأزرق من صحار إلى بمبي ينشر بيارقه ليجعل البحر عربيا من شطآن عمان إلى السند والهند، وكأن أبو الخليل ينام قرير العين كآخر المحمديين كما يعرف هو نفسه بنفسه في وصيته بأن “مذهبه محمدي”.
ولقد تغيرت نزوى كثيرا وكبرت وتوسعت إحتكاما لسنن التطور والتجديد، إلا أنها احتفظت بالكثير الذي يبقي على خصوصيتها ويحفظ لنا نزوى المحاريب والقباب، وحلقات الدرس والأفلاج وطيبة الناس والأسواق الصاخبة ببشارات الجبل الأخضر الخوخ والرمان وحلوي أولاد نصير.
ومن حسن حظ نزوى التي تتوج هذا العام عاصمة للثقافة الإسلامية أن اختصها سيد عمان وسيد تاريخنا مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم، حفظه الله ورعاه، وكرسها مدينة للتراث العماني في عام التراث ولكل أعوام مسيرته الثقافية الخضراء، وأضاف لها جلالته، حفظه الله، من الاستحقاقات ما يجعلها جديرة بهذا العنوان قيمة وقامة، وهو ما يفسر لنا سر احتفاظها بنزويتها الراتعة في حلقات الذكر والراعفة في شواهد القبور .
والزائر لنزوى الإسلامية اليوم يرى منارة جامع السلطان قابوس تطاول الشهباء، وسيد سادات آل سعيد يتسامى بإنجازاته على إنجازات أسلافه الصلت وقيد الأرض، وقد التفت سيد سادات عمان إلى الشهباء فرممها، وأعاد إليها روحها اليعربية، وأعلى فوق ساريتها رايته البوسعيدية، والتفت إلى الأنهار فصانها لتجري وتروي والتفت قبل كل ذلك إلى الإنسان فأنعش عمانيته كوريث لكل المجد الراعف على شواهد القبور.
والراتع في فراديس بيضة الإسلام اليوم يرى سماء تزدان بألف جامع وألف مدرسة ويرى معهدا للدراسات القضائية يجدد الإرث النزوي، ويرى بها الأكاديميات والكليات والجامعات والمعاهد التي تعيد لتخت الأئمة مكانتها عاصمة للثقافة ومدينة للتراث.
والمحتفون بهذه المدينة الخالدة كعاصمة للثقافة الإسلامية لن يحتاروا في مبررات المناسبة، فتحت شاهد كل قبر ملحمة تتجاوز الجغرافيا العمانية، وفي “روزنة” كل بيت كتاب يؤكد اسهام المدينة في مسيرة الإسلام، وفي دروبها مضامير لخيول ركضت من نزوى فساحت في مجاهل المعمورة تحمل رسل الحضارة وتنشر على سواري القارات رايات الإسلام.
تلك هي نزوى عطر سبلة أبي في الطفولة السمائلية وبخور سبلات كل الآباء والأجداد في كل عمان.
وحين نعيش احتفاء مكة والمدينة والقدس بنزوى العاصمة، ونتابع عناق مآذن الأزهر والآستانة وبخارى وسمرقند بمآذن “الشواذنة والعقر والشجبي”، وإكبار صنعاء وبلد الرشيد وجلًق بدور نزوى في الحضارة الإسلامية فإننا نقرأ معنى المناسبة واستحقاقات المكان.
ولا أجد أفضل ختام للحديث عن نزوى من أسئلة والدي وهو يستوقف ويستنشد:
قف حول قلعة نزوى وانشد الباني
هل أسسوها على رضوى وثهلان
وانشد معالمها الشماء كيف سمت
وقد علت هام بهرام وكيوان
وانشد صهيل جياد حولها مرحت
متى رأت في حماها خير فرسان