مقال| عُمان… حين تُغني الأرض للروح

يكتبه: د. قاسم بن محمد الصالحي|

في الركن الهادئ الذي تشرق منه الشمس على الوطن العربي، حيث يلتقي الحنين بالدهشة، تقف عُمان كأنها نشيدٌ أزلي، كُتبت أبياته بين تضاريسها وألوان سمائها، وطن لا يُشبه إلا ذاته، يروي للأرض حكاية الإنسان، ويبوح للغيم بأسرار الجبال والبحر والنبض الأول.. إنها الأرض التي حملت على كتفيها طُهر البدايات، وغنّت مع الرمل والماء تراتيل الخلود.
لا تسير في عُمان على أرضٍ فقط، بل تمشي فوق ذاكرة ناعمة نسجها الزمن بحنوّ، حيث الجبال ليست مجرد صخور، بل مآذن شاهقة للصمت، تقف جبال الحجر شامخة، تخبئ بين تلافيفها نَفَسَ الجدات وركض الفرسان، تهمس لك أن كل وادٍ هنا قد عرف الحب والخوف والبطولة، وأن الظل العماني لا يفنى، بل يُخلّد.. ثم تمضي قدمك إلى حيث الصحراء، وهناك تتسع الروح، تتهادى الرمال في الربع الخالي كأمواج ذهبية، لا توحش في حضورها، بل سكينة شاسعة، كأنك تعبر في حلم بلا نهاية.. الرمال هنا ليست فراغا، بل امتلاءٌ بالمعنى، بكل ما لم يُكتب بعد من حكايات العابرين.
وإذا ما اتجهت جنوبا، ستجد صلالة بانتظارك، مدينة المطر حين يعانقها الخريف، تتحول إلى أيقونة خضراء، تتنفس عطر النعناع، وتستحم بندى الغيم.. هنا لا ينزل المطر فقط، بل تنزل معه الدهشة، وتتفتّح الأرض كما لو كانت تستقبل زائرا عائدا من الغياب.. وفي حضن البحر، ترقد صور، هادئة كنشيدٍ صباحي، تروي شباكها للموج وتخيط الحكايات في مراكب لا تعرف الغرق.. أما مطرح، فهي النافذة المفتوحة دوما، لا تغلقها الريح ولا تغفو عيناها، تفوح منها رائحة الطيب والتوابل، وتتمدد الأزقة كسطورٍ في كتاب لا يُطوى.

وإن كنت تبحث عن سكونٍ لا يشبه إلا نفسه، فإلى “بر الحكمان” وجّه البصر.. هناك، في قلب محافظة الوسطى، ترقد هذه الأعجوبة البيئية على شاطئ ناعم مطل على بحر العرب، وتتحول كل عام إلى سيمفونية طبيعية مكتملة العناصر.. في شهور الشتاء، بين أكتوبر ومارس، تبدأ الطيور المهاجرة من آسيا وأوروبا وأفريقيا بالهبوط على ضفافه الهادئة: طيور النحام (الفلامينغو) بوقفتها الشاهقة، وطيور الكراكي والنوارس والخواضين، تحط على المرايا المائية الضحلة وكأنها لوحة حية تتبدل مع الضوء والمد والجزر.

وفي بر الحكمان، لا تأتي الطبيعة عابرة، بل مقيمة؛ تُنظم مواسمها بدقة، وتمنح المتأمل درسا في التوازن والجمال.. إنه المكان الذي تتنفس فيه الأرض بأجنحة، وترسم فيه الطيور خرائط هجرتها على صفحة ماء راكد كقلب مطمئن.. عند الفجر، يبدو المشهد كأن السماء قد انخفضت لتداعب سطح البحر، تنعكس فيه أجنحة الطيور كقصائد لم تُكتب بعد.

أما عن روح العطاء، فإن عُمان تنسج من ترابها وبحرها خيوط التطوع البيئي، حيث تتفتح المبادرات في أيدي شبابها وشاباتها كما تتفتح الأزهار بعد المطر.. في السواحل، ترى المتطوعين ينقّون الرمال من شوائب البحر، يزرعون أشجار القرم، يحفظون البحر من عبث العابرين، وفي الحقول، تمتد الأيادي لزراعة النخل، وإحياء الزراعة التقليدية بحبٍ ومعرفة، لتتحول كل مبادرة إلى نشيد بيئي، وكل متطوع إلى شاعرٍ يكتب بالعمل لا بالحبر.

لكن عُمان، في عمقها الأجمل، ليست في الجبال أو البحار، بل في إنسانها.. العُماني، ذلك الذي يشبه الأرض في صمته وكرمه، في حكمته وتواضعه، يستقبلك كما لو كنت أحد أبناء المكان، ويترك فيك أثرا لا يُنسى، أثر الطمأنينة والانتماء.

هو العُمانيُّ الذي إن جئته
فتح القلوبَ وقال: أهلاً بالمُنى”

فلتأتِ إلى عُمان، لا لتلتقط صورة وتغادر، بل لتسكنها لحظة، وتسمع نبضها، وتقرأها كما تُقرأ القصائد.. دعها تروي لك ما لم تقله الخرائط، وخذ منها ما يروي روحك قبل خطواتك.. فهنا، لا تكون مجرد سائح، بل ضيفا على التاريخ، ورفيقا للطبيعة، وابنا لسلامٍ لا يُنسى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*