يكتبه: د. قاسم بن محمد الصالحي|
في بلادٍ اعتادت أن تُحادث الرياح، وتؤنس البحر، وتصغي لصدى القوافل في صحرائها، وُلدت عُمان من صمت الجبال وصبر البحّارة، وبصيرة القادة.. على مر العصور، لم تكن هذه الأرضُ إلا جسراً بين العالمين؛ بين الشرق والغرب، بين سهول آسيا ومدائن أفريقيا، بين زنجبار وسمرقند، بين موانئ اللبان وقلاع الشمال.
سيرة عُمان ليست فقط تاريخا مدونا في الكتب، بل درب قوافلٍ كانت تمشي الهوينى، تحمل الملح والتمر، واللبان والعاج، وتعبر الجبال لتلتقي بأسواق لم تكن تعرف لها اسما إلا عند وصولها.. من هناك، من عمق الجغرافيا والتاريخ، بدأت ملامح الصلة الخفية بين عُمان وروسيا.
رغم غياب علاقة تجارية مباشرة موثّقة بين عُمان وروسيا في القرون الوسطى، إلا أن المسارات البرية التي عبرت فارس وآسيا الوسطى كانت تحمل منتجات عُمانية – كالبخور والتمور – إلى الشمال الروسي عبر تجار ووسطاء فارسيين وعرب.. وفي المقابل، دخلت البضائع الروسية إلى أسواق الخليج ضمن منظومة التجارة الكبرى التي ربطت الشرق الأدنى بأعماق أوراسيا.
إنها قصة تجارة غير مباشرة، لكنها تعبّر عن اتصال حضاري طويل الأمد، وعمق استراتيجي لم يُكتب في وثائق الدول، بقدر ما نُقش في سروج الجمال وصناديق القوافل.. بين الماضي والصعود الحديث، عُمان وروسيا على مسار جديد.
مع بداية القرن العشرين، ومع تحوّلات كبرى في ميزان القوى الدولية، بدأت روسيا القيصرية ثم السوفييتية في إبداء اهتمامها المتزايد بمنطقة الخليج العربي.. أما عُمان، فكانت تمارس بحكمتها التقليدية سياسة الاتزان، وتُراقب التغيرات بهدوء.
وفي عهد النهضة الحديثة، برزت خطوات رسمية لتعزيز العلاقات بين سلطنة عُمان وروسيا، تُوّجت بزيارات دبلوماسية متبادلة، وفتح قنوات للتعاون في مجالات الطاقة، والتسليح، والتعليم، والعلوم.
تأتي زيارة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، إلى موسكو، في لحظةٍ دقيقة من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، لتؤكد أن السياسة العمانية تسير بخطى ثابتة نحو تنويع الشراكات الدولية، وتعزيز العلاقات مع القوى الكبرى، من دون انحياز، ولا انغلاق.
ومن المتوقع أن تشهد الزيارة توقيع اتفاقيات تعاون في قطاعات النقل، والبتروكيماويات، والسياحة، والتعليم العالي، وربما يكون فيها نقاش استراتيجي حول الأمن الإقليمي، ومستقبل الملاحة الدولية، ودور عُمان الوسيط في قضايا الشرق الأوسط.
في زمنٍ يعود فيه العالم إلى إعادة تشكيل طرقه، ومع صعود المحاور الجديدة في آسيا وأوروبا، تبدو عُمان وروسيا كدولتين تملكان كل المقومات لصياغة شراكة مختلفة: شراكة لا تُبنى على لحظة مصالح عابرة، بل على إدراك متبادل لطبيعة التوازن، والاحترام، والمكانة.
ولعل زيارة جلالة السلطان إلى موسكو لن تكون مجرد خطوة دبلوماسية، بل علامة فارقة في مسار طويل، بدأ بصوت قافلة على أطراف صحراء، وتستمر اليوم بنداء من الكرملين إلى جبال الحجر.