حرب اليمن بين قتل كسرى واجتثاث سيف بن ذي يزن

بقلم- حمود بن سالم السيابي | على شاشة قاذفة “أف 16” كانت صنعاء تزدحم في باب اليمن لتتبضع من سوق الملح طحينا وسمنا وقاتا حين صرخ الطيار (العربي) بغضب وهو يكيل اللعنات والشتائم تارة على أخطاء التصنيع الأمريكية وتارة على جيمس واطسون مخترع ال (D N A) لعجز أجهزة الطائرة من تحديد الحوثي من غير الحوثي على الرادار، وفشل اختراع واطسون من التفريق بين المؤيد للرئيس المخلوع والمعارض له، وفشل اختراعه على الفرز بين من يدس تحت حزام خنجره قنبلة، وبين من يحمل لأمه زجاجة دواء السعال لمعالجة ما تنفسته من سموم وأدخنة وغبار عاصفة الحزم.
وكان طيار عاصفة الحزم وهو في كابينته المجهزة أزرارا وأرقاما وخرائط تتنازعه أزرار الضمير الأكثر عددا في دماغه من أزرار الميراج والفانتوم، وتتصارع في داخله خرائط أكثر تعقيدا من الخرائط الملاحية الظاهرة في الشاشة أمامه. وكانت تدمره نفسيا الحمولة الجهنمية التي يوشك أن يلقيها على ممالك سبأ وقتبان وحمير، والتي لن تفرق بين الحوثي الممتشق (الآر بي جي) دفاعا عن شعرة في لحية عبدالملك الحوثي، وبين كهل يحمل فوق رأسه جحلة ماء ليشرب ويتوضأ، بعد أن حرمته الطلعات الأولى لعاصفة الحزم من زوجته التي تخدمه، وأطفاله الذين يملأون حياته، ومسجده الذي اعتاد أن يصلي فيه الفجر.
ولم يكن الطيار العربي وحده الذي تقتله التساؤلات عن جنون الإحتراب العربي، بل كان السياسي العربي أكثر حيرة منه وأشد حاجة لجهاز ال (D N A ) ليساعده لوجستيا وليس جينيا في التعرف على الأخطار التي تهدد الأمن القومي، والوقوف على حجم التهديدات التي تتعرض لها الملاحة في المياه العربية، ولتحسس التواجد الحقيقي لإيران في مقايل اليمن، وللتأكد من معاني اللطميات الفارسية في حسينيات صعدة، وعن سيوف وقامات التطبير المستوردة من زنجان، ليوجه آلة الحرب والدمار وجهتها الصحيحة، كسبا للوقت وتوفيرا للجهد والمجهود الحربي ولتحقق العاصفة هدفها في قتل كسرى أنو شروان، قبل أن يضغط الطيار على زر يجتث   أمجاد سيف بن ذي يزن.
وفيما تتزاحم الجغرافيا اليمنية ممالك وحضارات وعصور، ويتصاعد المشهد اليمني بحوثييه وزيوده وبسلفييه وصالحييه، وبإخوانييه ويسارييه، تتكشف الأهداف الحقيقية لعاصفة الحزم بجناتها وضحاياها، فعبدالملك الحوثي الذي تدك الصواريخ معاقله كعنوان ساذج للحرب  ليس أكثر من حالة طارئة على التاريخ، فقد تربى الرجل في حضن من يحاربونه الآن، وتمول من خزائن من يقذفون حممهم على رأسه ورؤوس كل اليمنيين معه  الآن.
وفيما تحيل القاذفات الجهنمية ليل اليمن إلى نهار تفصح الحرب عن بعض نواياها لتبدو أخطر من تركيع حوثي متمرد يتدحرج من قمم صعدة، وأكبر من إعادة عبد ربه منصور هادي إلى كرسي المتوكل والإمام حميد الدين والسلال.
ولأنها حرب كبيرة وإن صغرت لافتاتها، وخطيرة وإن افتقد صناعها لشجاعة الإفصاح عن خواتيم أشواطها لأسباب تخصهم، ربما لحساسية المكان الذي يضغط بقوة لترك مسألة الافصاح للآتي من الزمان، ولربما للبذخ الحضاري لليمن الذي يحضر في البيت العتيق كأحد أركانه، ولأنه منبت الأرومات وعاصمة الأجداد، ولأن اليمن عرش بلقيس وتاج أروى، ودعامات مأرب،  وأعمدة  غمدان، ولأن اليمن يمان.
ولعل إسم عاصفة الحزم هو العنوان المفتوح لحرب تخفي أكثر مما تظهر، ولعل الاسم طوق النجاة للمتكتمين على الأهداف إذا ما أفرطوا في استخدام القوة، فيتحججوا بطبيعة العواصف التي من سننها حين تهب تقتلع الأخضر واليابس، وبذلك توفر التسمية الإجابة الحاضرة حين يتوجب التكتم في الحديث عن الغايات.
إلا أن عاصفة الحزم وسعت نطاقها ليطال غبارها من لم ينساق معها، واتخذت العاصفة من الفضائيات وعالم التواصل الإجتماعي ساحة جديدة لصواريخها الطائشة،
ومن أمثلة هذا الطيش تكرار الفضائيات والتغريدات أوهام الدكتور عبدالله النفيسي من أن عمان شيعية، وأن الأباضية والشيعة من نفس المشكاة، وأن عمان لأجل ذلك  لا تنسجم طقسيا مع عاصفة الحزم.
ويتعامى أصحاب هذا الزعم عن حقائق التاريخ وقياساته، إذ تقدر المسافة بين الأباضية والشيعة ببعد المشرقين، والتاريخ يلقي في هذه المسافة بين المذهبين واقعة قبول الإمام علي كرم الله وجهه للتحكيم، ويضع بينهما النهروان والشهداء.
ومن أمثلة هذا الطيش تشنيعهم على عمان بأن هواها فارسي، ويتناسى هؤلاء أن الدولة البوسعيدية تأسست  على نجاحها في تطهير عمان من الفرس، وأن بيارقها رفرفت لقرون على سواحل فارس.
ومن أمثلة هذا الطيش ما استشكله ضيف التلفزيون السعودي على المواقف العمانية من ايران، بدءا من الحرب العراقية الإيرانية وانتهاء بالمفاوضات النووية بأن عمان تخدم السياسة الإيرانية على حد زعمه، ويتعامى هؤلاء عن رؤية الجهد العماني الذي حمى المنطقة من خطر توسيع نطاق الحرب، وفوت الحضور العماني في المفاوضات النووية الفرصة على إيران من أن تتكرس رقما مرعبا في قائمة ملاك السلاح النووي.
وآخر هذه الإستشكالات عن الدور العماني ما انفرد به  الدكتور محمد النجيمي من أن عمان لم تشارك في عاصفة الحزم لضرورات مذهبية، فاليمن شافعية، وأن عمان على حد زعمه نأت بنفسها مراعاة منها لشوافع عمان، ويتناسى هؤلاء أن عمان منذ فجر الإسلام دار تعايش ووئام، وأنها تراعي الأباضي والسني والشيعي، وإن عمان بتنوعها المذهبي الذي يرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تلتف حول التاج البوسعيدي، وتسير خلف سيد ماضيها وسيد حاضرها وسيد مستقبلها قائدها الأعلى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم، حفظه الله ورعاه .
ونقول للذين يجهلون مفاتيح السياسة العمانية أن التاريخ القريب يحدثكم عن أن عمان إرتبطت بعلاقة متينة مع إيران في عهد الشاه، وبرحيله أضافت فصولا جديدة للعلاقة في عهد سلفه اللدود الخميني، لأن العلاقات الابقى من المنظور العماني هي الجسور الممدودة مع الدول لا مع الأشخاص.
وعمان أبقت على علاقاتها مع مصر رغم مقاطعة العرب لها أثر زيارة السادات لإسرائيل، وكانت المقاطعة موضع ترحيب إيراني، ولكن عمان لم تسمح لإيران لأن تؤثر على  علاقتها بمصر، فقرارها السيادي لم تستطع قمة بغداد  من أن تنال من ثوابته بكل الزعامات التاريخية الحاضرة فيها، من صدام إلى الملك فهد إلى الملك حسين إلى الشيخ زايد إلى الشيخ جابر الأحمد، لانه قرار يصاغ في مسقط، ولا يملى عليها من خارج الحدود، ولأن عمان سبق وأن رفضت ضغوطات الزعامات العربية فكيف  ستسمح للخميني وغير الخميني لأن يزحزحها قيد أنملة.
وتتعطر صفحات التاريخ بعلاقات مسقط وبغداد في عهد الشهيد صدام الذي يعتبره الخميني عدوه التاريخي، ورغم تلك العداوة لم تتعكر المياه بين بحر عمان ومياه شط العرب بل استمرت صافية ونظيفة، وكانت عمان الدولة الوحيدة في الخليج العربي التي احتفظت بعلاقات متوازنة مع بغداد وطهران طوال حرب الثمان سنوات.
وشيدت عمان دعائم علاقة متميزة مع البيت الهاشمي في الأردن رغم أن الخميني ينعته بالشاه حسين، فاستطاعت عمان مع ذلك التوفيق بين من تعتبره طهران  الشاه حسين وبين الخميني المنقلب على شاه ايران والمجتث لعرشه بثورة الكاسيت رغم أنه عرش يغوص في عمق 2500 عام.
وحين غزا صدام الكويت اصطفت عمان في الخندق الخليجي لترد الغزو، ولكنها رفضت بقوة المشاركة في اصطفاف الخليجيين مع الأمريكان في أكذوبة الكيماوي المزدوج، فامتنعت عمان بقوة من ضرب بلد عربي جريا وراء أكذوبة أمريكية.
وكانت أيادي عمان هي الانظف في الحرب الأهلية اللبنانية. ولم ينفخ المال العماني النار في الشاب التونسي بوعزيزي. ولم ترسل عمان طائراتها لدك العزيزية في ليبيا على رأس القذافي رغم علاقاتها القوية مع فرنسا قائدة الحرب على ليبيا. ولم تتآمر عمان على مبارك حين احتشدت مصر في ميدان التحرير، ولم يستخدم المال العماني وقودا لثورة ٢٥ يناير في مصر.
ونأت عمان بنفسها من مساندة بشار لقتل شعبه، ولم تمول بالمقابل المليشيات التي تقاتل بشار.
لذلك فإن النأي بالنفس من وحل الأرض اليمنية ينسجم عمانيا مع كل هذا الإرث السياسي الذي صاغه سيد عمان وحكيم العرب.
ومن يريد ان يفهم محاور السياسة العمانية فعليه ألا يندهش من موقفها من عاصفة الحزم، فمواقف عمان تفسر بعضها.
وقد نعذر الجهال الذين لا يعرفوننا، ولكننا لا نعذر قامات كالدكتور النفيسي والدكتور النجيمي وغيرهما ممن يطفح “فيسبوك” و”تويتر” بتغريداتهم، والذين لا يلتزمون للأسف بنزاهة البحث وحيادية الباحث في التعاطي مع الشأن العماني فيطلقون أحكامهم بتقنية التوجيه عن بعد، ووفق هوى القنوات الفضائية التي تستضيفهم، وينساقون وفق المزاج الذي يتسيد المناخ العام .
ولعل الذين يستشكلون على الموقف العماني المستقل، قد يجدون الإجابة لدى العميد ركن أحمد عسيري الناطق الرسمي باسم عاصفة الحزم وهو يعدد الخسائر البشرية إذا ما سألًوه في ايجازه العسكري عما إذا كان يستخدم تقنية ال (D N A) في تحديد الخسائر البشرية من  الحوثيين والصالحيين وسواهم من القتلى، فلربما تسهم إجابته في سكب مياه باردة على قلوب طياري عاصفة الحزم المعلقين بين السماء والأرض، وبين ضبابية الأوامر وجهنمية التنفيذ، وبين حوثي صدرت الأوامر لهم بقتله، وبين كهل لم يشمله أمر القتل إلا إن العاصفة اجتاحته وهو يحمل أرغفة خبز وزجاجة دواء وجحلة ماء.
وقبل ان تصلكم إجابة العميد عسيري سيكون الطيار العربي والسياسي العربي والحاكم العربي قد ذهبوا  بعيدا في اليمن بحجة قتل أحلام كسرى أنوشروان، ولكنهم اجتثوا خطأ، أو عن سابق إصرار وترصد أمجاد سيف بن ذي يزن، ومشربيات دار الحجر وقصر غمدان.

تعليق واحد

  1. عبدالله المطحني

    بارك الله فيك كلامك صحيح ومسكت مكان الوجع في اليمن بارك الله فيك الأخ حمود بن سالم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*