مرافىء | السُليف حبٌّ يسكنني


بقلم: أ. جوخة الشماخية | شيئا فشيئا أجد نفسي أقترب من المنعطف المؤدّي إلى بلدة السليف، بلدتي الصغيرة، ومسقط رأسي، ومرفأ طفولتي وصباي وبدايات شبابي، ساعتها أبتسم ابتسامة لا يفهمها سواي. وينتابني شعور يصعب وصفه أو التعبير عنه، أبجدية حروفي تخونني، رغم ما امتلكه من لغة، فليس من السهولة أن تصف أجمل محطات عمرك، وحين أقترب أكثر، أمعن النظر في قلعتها المنتصبة على سفح الجبل، لا تزال فتيّة تحتفظ بشموخها، لم تنل منها أحداث الزمان كثيرا، لطالما أسدلت ظفائرها واغتسلت في مياه الوادي الذي تطلّ عليه، ما يزيد من جمال الوادي هو ذلك الجسر المعلّق فوقه، فحين يمتلئ الوادي ماء يبدوان وكأنهما في حالة عناق حميم. تمرّ أمام عينيّ صفحات ناصعة البياض، تعبق بالحنين والذكريات، فانغمس بكل جوارحي، مستعرضة جزءا من ماضٍ جميل، شهدته حارة القلعة التراثية، ببيوتها ومسجدها ودكاكينها القديمة، فتهمس لي رائحة طينها بالكثير من أسرار طفولتي. كانت الحياة غاية في العفوية والبساطة، حياة نبدأها فجرا، نقطع نهارها دون كلل أو ملل، حتى الآن لا تزال حياة السليف تحتفظ بتلك العفوية، هذا ما أستشعره أثناء زيارتي والتقائي بأهلها. أبتسم من جديد، لكنّ هذه المرة ابتسامة عريضة، حيث أتخيّل لقاءاتي بصويحباتي، ونحن نحمل المياه على رؤوسنا من فلج (شنبوه)، الذي كان مضرب المثل في الغزارة والصفاء، نتنقل بين السكك والضواحي، نقطف الليمون والأمبا والبيذام، ونجمع الياسمين والبلّ(زهر شجرة النارنج)، ونتسابق في جمع (الخَلال)، نشكّه قلادة نلبسها، ونأكل من حبّاتها، أما خَلال نخلة النغال، فعندما يميل إلى اللون الأصفر ندفنه في تراب القيظ الساخن؛ ليتحول إلى رطب قبل أوانه، ولليل خصوصية أخرى، حيث نتجمع في بيت من بيوت الجيران، أمهاتنا يكحلن أعيننا، ويبخرنَ ملابسنا، ويضعن لنا (المحلب) والزعفران على وجوهنا، ويقصصن لنا (التخاليق) ونحن مصغيات ومستمتعات، تحضر في ذهني كلمات كُنَّ يتغنينَ بها عن السليف:

مسيلف طويله وعريضه تنقسم دارينْ                       يا دار فيها فلج ويا دار فيها عينْ

احتضنتنا مدرسة القرآن الكريم فتيات وفتية، مع معلّمنا الجليل سالم بن بدر المنذري، رحمه الله، كان يُحفّظنا قصار السور، ويعلّمنا تهجئتها، ربما من هنا بدأ حبي للغة العربية وتعلّق قلبي بها.في أيام العيدين والمناسبات الوطنية، يجتمع الناس تحت سدرة السوق، يؤدي الرجال الأهازيج الشعبية، مثل العيالة والرزحة والميدان، برفقة الكاسر والرحماني. ستبقى ذكرياتنا تضفي الحياة إلى قلوبنا كلّما غلبتنا الأيام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*