“ضلال أنا لا يموت أبي”


بقلم: حمود بن سالم السيابي |

حتى المداد يتخثر في الأصلاب، حتى اليراع يحتضر.
حتى ورق الكتابة ينازع النهايات.
ثلاثة أرباع العمانيين ولدوا في عهده فلا يعرفون أبا غيره.
رأوا عمان بعينيه، وحيوا العَلَمَ الذي اختار ألوانه ، ووقفوا للسلام السلطاني الذي أجاز كلماته وألحانه.
يولد الإبن فينا ويكبر ومعه الأب قابوس العظيم وشْماً في القلب.
ويتعرف على صوره المعلقة في الحيطان قبل صورة أبيه ، ويراه في الدفاتر والكتب ، وتتفتح عليه العيون في جداريات المدرسة وحييطان الصف ويسمع اسمه في الأناشيد.
وحين يعودون للأسلاف في المناهج الدراسية ويستعرضون السير والإنجازات يرجحون كفته بكثير ، فكل المدارس بتدرجاتها إلى الجامعة رنت أجراسها في زمنه.
وكل المستشفيات التي انتشرت من أقصاها إلى أقصاها وضعت سماعاتها على الصدور بإملاءآته.
وحين يعتزون بسير الأجداد يرونه الأجدر فقد حارب وانتصر وحمى الحوزة وارتفع علم البلاد في المنظمة الأممية وجامعة العرب على سواري زمنه.
ماذا نكتب عن رجل بحجم أمة ، تضعه إنجازاته في كفة وكل من سبقه في كفة وهو الراجح.
وقد شيدت عمان منذ فجر الاسلام الجوامع ولكن جامعه الأكبر هو الأكبر. وتباهت بأساطيل اليعاربة وآل سعيد وهي أقل من بارجة حربية من بوارجه.
ودوَّت المدافع العمانية عبر الزمان وهي أقل في مداها ونيرانها من كتيبة مدفعية من الكتائب التي نشرها على تخوم الوطن العظيم المحروس به بعد عناية الله ، فهابه الجميع وحسب له ألف حساب الجميع.
جاء إلى عمان مع الفجر وعمان منقسمة على أبيه فاجتمعت بحبها الصادق عليه.
وجاء وعمان متشظية على قبائلها فصاغ منها قبيلة واحدة تسمى عمان فكانت أشرف القبائل في كتب الأنساب.
وجاء والأخضر الأشم ينزف فضمد الجراح وأحاله محجا لعشاق الشموخ ، فأينع حقل الورد واستدار الرمان.
وجاء وسمحان ثائرا فثار معه وصاغ من حلم الثوار وطنا يستحقهم ويستحقونه ، فعبق الحوجري.
حكم فعدل حتى في الفرح ، فجعل مصليات العيد متنقلة لترسم الفرح في عيون الصغار والكبار فلا فضل لشبر عماني على شبر.
وجعل ميادين العيد الوطني متحركة حتى لا تستأثر ولاية دون أخرى ، فكانت ولاية المصنعة آخر ولاية حملته على الأهداب وهو يشرف الاحتفال لتقف معه وهي تستمع للسلام السلطاني.
ماذا ستكتب الأقلام عنك سيدنا وقد فقدت شهية الحبر.
وبماذا ستتلون القراطيس وكل نقطة حبر كالجمر ، وكل كَسْرة وفتحة وضمة كالجرح.
لقد رحل أعز الناس وأشرف الناس وأغلى الناس وذلك الواقع المؤلم وإن لم نتقبله.
ولن يقترن اسمه بعد العاشر من يناير في مرسوم سيصدر أو برقية ستذاع أو خبر ترؤس لاجتماع لمجلس الوزارء أو استقبال لضيف وتلك الحقيقة القاتلة وإن عاكست الأماني.
إلا أن الأكباد ستظل تنتحبك مولانا وسيدنا ، فقد نقشت حبك هناك الذي لن يستبدل.
وستبكيك دما لأنك تغلغلت في الجوارح النابضة التي عاشت معك وستنزف حد الموت وحد النزع الأخير معك.
وسيبقى الوفاء لك في أن تحافظ عمان على منجزك ، فقد جدَّدْتَ ولادتها إلى أن كبرتْ بك.
وسيبقى حبك في التمسك بما بنيتَ وأعليتَ وطاولتَ السماء.
مولانا المعظم هذا جامعك الأكبر يجمعنا دون صلاة للجمعة ولا لمناسبة دينية ولكن لنصلي عليك وندعوا لك ، ومع ذلك سأنحاز إلى صف المكذبين بأنك مت “فضلال أنا لا يموت أبي”.
وسأبقى أسمع اسمك يتردد في الاخبار والبرقيات والمراسيم وكأن قلمك الأحمر مازال هو الذي ينساب ونحن “نشد يديك.. نميل عليك نصلي على صدرك المتعب.
وإذا كان ٢٣ يوليو ١٩٧٠ هو فجر مجيئك فإن ١٠ يناير ٢٠٢٠ هو يوم تجدد المجيئ فمثلك من لا يترجَّل عن صهوات التاريخ ، فالأشواط ممتدة وحصانك هو السبوق.
رحمك الله أبا تموت لتحيا ، وتحيا بك وبمآثرك عمان.
———————
مسقط في الحادي عشر من يناير ٢٠٢٠م.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*