بقلم- حمود بن سالم السيابي | وقف على بحيرة تنجانيقا فارعا كنخلة زيت، يتأمل وجهه على صفحتها، إلا أن نهر “روزيزي” سبقه إلى البحيرة ومعه الكدر والطين. وبينما الغيمات الساكبة تزفه في جوقة من يمام وفراشات وهو في طريق العودة إلى البيت لتغسل كآبة “روزيزي”، كانت العاصمة البوروندية “بوجمبورا” تتقلى على صراعات الهوتو والتوتسي – هناوية وغافرية – البحيرات الإفريقية العظمى، فيزداد ضيقا بالمكان وكدرا بأهل المكان.
حزم الفتى خلفان العيسري حقائبه وارتمى على كرسي الطائرة الكينية وفي الجيب رزمة من شلنجات زنجبار وفرنكات بوروندي، لعل صيارفة خور بمبه يقبلون تحويلها إلى الريال العماني.
وحين وقف عند منابع أفلاج شرقية عمان، لم يجهد نفسه في البحث عن انعكاس الصورة على الماء الرقراق الذي لم تكدره الروافد، فكان وجهه الباسم يملأ المشهد وخلفه النخل ومآذن الجوامع وشموخ الحصون.
عاد خلفان العيسري إلى عمان والبلاد تعانق فجر البدايات ، والتعليم متطلبها الأول، فأدرك أنه استعجل في العودة قبل أن يكمل الدراسة، فحزم حقائبه من جديد وتيمم شطر الهضاب الأسكتلندية، ليكون جزءا من متطلبات نهضة عمان.
وحين حط الرحال في جلاسجو ودخل أرقى جامعاتها لم يكن دخوله كدخول كل الطلاب، فكانت حقيبته خالية من بنطلونات الجينز، وقمصان البولو، ونظارات ريبان الملونة و”الكاب” الذي يغطي رؤوس الشباب، ولم يتساءل ماذا سيلبس في يومه الجامعي الأول.
دخل السكن الجامعي وفتح حقيبته المعطرة بالكيذاء، وتناول دشداشة مبللة بدموع امرأة من الشرقية حاكتها على ضوء قنديل زيت، وتوج رأسه بعمامة عيسى بن صالح فازداد طولا، وترك هواء الشمال البريطاني يفرق لحيته الطويلة كلحية نور الدين السالمي.
ومرت سنواته الأسكتلندية بين صخب الميكانيكا، والجلوس على مقاعد القراءة في مكتبة “ميتشل” ففي الصباح تأكل الميكانيكا بعض صحته، وفي المساء يشرب رحيق الثقافة الإنسانية من رفوف أكبر مكتبة خاصة بالعالم تعج بأكثر من مليون كتاب فيزداد بالقراءة صحة وعافية.
وكما دخل جلاسجو بهيئته العمانية إلتحق ب “بي دي أو ” بنفس الهيئة، فلم يكترث لدعابات زملائه حين قالوا له، إنه لن يقبل كمهندس بل سيعين كمؤذن لمسجد ميناء الفحل . ولم تكن دعاباتهم ببعيدة عن الحقيقة، فكان يؤذن للصلاة في المسجد، وحين يكون في الصحراء وبين هدير أجهزة الحفر كان يرفع الأكف المخضبة بالزيت إلى السماء شاكرا الوهاب الذي وفقهم لاستخراج كنوز الأرض لإعمارها.
وفيما تعود قوافل الخريجين من جامعات عمان والعالم لتأخذ مكانها وتنهض بمسؤولياتها وتتوزع على مواقع العمل والإنتاج، ينتقل الشيخ العيسري ليضع نفسه في متطلبات التغير في الأولويات فيتجه لسد ثلمة أخرى في إحتياجات عمان، فكانت الهندسة البشرية هي مطيته الجديدة فيقبض على العنان ليعيد هندسة الإنسان وتحفيز الكنوز الدفينة فيه وصولا لتوظيفها لصالح البلاد والعباد.
وفي كل مراحل حياته منذ أن وقف فارعا أمام بحيرة تنجانيقا وحتى عودته إلى وطنه ليتوضأ من نمير أفلاجها، إلى سفره للدراسة في الشمال البريطاني كانت عمامة عيسى بن صالح وكتب نور الدين ودروس الشيخ أحمد الخليلي تتقدم المساقات الأكاديمية للميكانيكا، وكانت منابر الجوامع تتقدم “سكاشن” الجامعة، فكان الداعية قبل المهندس، بل كان أول داعية في التاريخ الإنساني يرطن بسبع وعشرين لسانا، ويجادلهم بالتي هي أحسن ليبكي وليبكيهم.
وكان على النقيض من أحمد ديدات، لا يقارع ويحاجج ليسجل الغلبة والتفوق، بل يسمو بالإسلام ويتسامى بالحوار فيه، من دون أن يستعرض علمه وثقافته.
وكان في مشواره الدعوي لا يسفه ديانات الآخرين، ولا يدعوهم لتركها واعتناق الاسلام كبديل، فكانوا يهرعون إليه عن قناعة للنطق بالشهادتين على يديه كمخلص لحيرتهم ومعاناتهم وضيقهم بالحياة.
وكان يمشي في شوارع الغرب وعيونه على الصلبان التي تترنح في الرقاب على سلاسل من ذهب، وعيونهم على هذا الفارع الطول الذي يشق الصفوف كرمح عربي من فجر التاريخ جاء ليهدم المعبد ويفجر برجي نيويورك ويلغم قطارات بريطانيا وفرنسا وأسبانيا ويحمل ضغائن “تورا بورا” وثارات الحروب الصليبية على ثالث الحرمين، ولكنهم ما أن يجالسونه حتى يشع نور الله في قلوبهم المعتمة وتتفتح جنائن الإسلام بروائحها الزكية، فتتغير الصورة المشوشة عن ارتباط الإسلام بالإرهاب، فلا يرونه عدوا لهم بل يرونه أكثر عداوة منهم للضلالات التي تتمسح بالأديان، ويرونه خصما للذين يقتلون ويدمرون باسم الإسلام.
وحين يترجل الشيخ العيسري عن صهوة جواده ويهبط من آخر درجة في المنبر، ويقترب الطبيب من سريره ليتحقق من ومضة الحياة بين جفنيه ويعلن استرداد الوديعة، فإن خلقا كثيرا تموت معه، وخلقا كثيرا تبكي فراقه، بينما هو يبتسم، فنفسه المطمئنة تستعجل الرجوع إلى ربها راضية مرضية، وفي شوق لمجاورة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو على أحر من الجمر للحاق بأبائه البررة عيسى بن صالح ونور الدين، وسعيد بن خلفان الخليلي وخلفان بن جميل وحمد بن عبيد وسالم بن حمود ومحمد الرقيشي وناصر بن سالم الرواحي ومحمد بن شامس وسالم بن حمد بن سليمان.
وكما كان فارعا كنخلة زيت تأبى التكسر على صفحة بحيرة تنجانيقا، وشامخا كحصون عمان التي تتوج جبالها الشم، سيبقى الشيخ المكرم خلفان بن محمد العيسري إسما يطاول الأسماء، وملحمة عشق خالدة للعقيدة والوطن تتناقلها الأجيال، فمثله يحيا بالموت، وإن احتكمت الأبدان لسنن الخواتيم والنهايات.
وغدا سيقف العيسري عند نفس البحيرة ويتوضأ للفجر من نفس الفلج ويجلس على مقاعد ذات الجامعة بعمامة عيسى بن صالح ويمشي بيننا وهو يتأبط طلعة الشمس والحق الدامغ وهيميان الزاد وسلك الدرر وإرشاد الأنام.