تكتبها: آمنة بنت محمد البلوشية|
“أن تكتب لتنجو: قراءة في السرد الإنساني لرواية “سجينة طهران”.
في روايتها “سجينة طهران”، تفتح مارينا نعمت نصها بجملة تنطوي على دلالة رمزية عميقة: “لون السماء لا يتغير أينما ذهبت”. غير أنها سرعان ما تُراجع هذه القناعة حين ترى السماء في كندا أكثر زرقة، أكثر اتساعا، بلا حدود، وكأنها تتحدى الأفق. هذه المفارقة بين سماء إيران وكندا تكشف أن السماء لم تكن مجرد عنصر طبيعي ثابت، بل انعكاس لحالة داخلية، لتجربة وجودية مريرة، حيث يغدو اللون ذاته مشروطا بالحالة النفسية.
السماء في إيران كانت سقفا للرقابة والقهر، بينما بدت في كندا وكأنها تمنح جسدها للحرية. من هذا السطر الافتتاحي، تبدأ مارينا في تفكيك العلاقة بين المكان والروح، وتُمهّد للقارئ أن الجمال لا يُرى إلا حين تتحرر النفس، وأن السجن لا يكون دائما وراء القضبان.
تسرد مارينا سيرتها الذاتية في ثمانية عشر فصلا، بلغة نثرية تنتمي إلى أدب السيرة، مشبعة بالحميمية والصدق، وتخلو من التجميل أو التصنّع. تعتمد ضمير المتكلم لتروي، لا لتنتصر لذاتها، بل لتشهد. هذه الشهادة الأدبية ليست تسجيلا لتجربة شخصية فحسب، بل تمثل توثيقا صادقا ومؤلما لحالة جماعية تعرّت من العدالة، حيث يتحول النظام إلى كيان غاشم يستبيح الجسد والضمير باسم الأيديولوجيا. لم تسعَ مارينا إلى صناعة بطولة زائفة، بل جاءت روايتها محمّلة بما هو أعمق: إنسانية هشّة تتشبث بالأمل وسط العتمة، وشهادة عارية تسائل القيم باسم الألم.
السجن في الرواية يتجاوز كونه مكانا مغلقا، ليصبح كيانا رمزيا للاضطهاد، حيث تتقاطع فيه الأجساد المقهورة بالأيديولوجيات الغليظة. ورغم ذلك، تتسلل الكتابة كنافذة صغيرة تنفتح في الجدار الصلب، نافذة تُطلّ منها مارينا على الخلاص. لم تكن الكتابة وسيلتها للشكوى، بل كانت طريقتها لمقاومة الفقد، ومحاولة لاستعادة الذات من بين أنياب العجز. لم تقل “أنا ضحية”، بل قالت: “نجوت، لا لأنهم أطلقوا سراحي، بل لأنني كتبت”. وهنا تتجلّى قوة الكتابة بوصفها فعلا وجوديا، بلغة تنزف دون أن تُحرّض، وتُضيء دون أن تنتقم. هي لغة تخرج من الجرح، لا لتصرخ، بل لتشهد.
تحولات الصوت السردي تكشف عمق البناء الفني في الرواية. رغم اعتماد مارينا على ضمير المتكلم، إلا أن صوتها لم يكن أحاديا. لقد حملت الرواية طبقات متعددة من الأصوات: صوت الطفلة التي كأنها، صوت المرأة التي قاومت، وصوت النساء الأخريات اللاتي شاركنها السجن والمأساة. هذا التعدد منح الرواية عمقا إنسانيا متعدّد الأبعاد.
الطفولة في الرواية لم تكن خلفية عابرة، بل ظلت ظلا دائما في مشهد القهر، حيث تبرز براءة الطفلة التي كانت مقابل فظاعة ما عايشته لاحقا. استحضار علاقتها بجدتها ووالدها لم يكن حنينا، بل محاولة لفهم الكيفية التي تحطم بها عالمها الآمن فجأة.
اللغة في الرواية ليست أداة محايدة، بل شخصية ثالثة. مارينا كتبت بالإنجليزية، لغة المنفى، وعايشت الألم بالفارسية، لغة الوطن. هذه المفارقة تعبّر عن تشظي الهوية، حيث اللغة نفسها تصبح موقعا للنجاة، لكنها أيضا تذكير دائم بالتمزق.
رسمت مارينا شخوص روايتها بلغة نابضة بالحياة، فبدت كل شخصية وكأنها مرآة لوجه من أوجه القمع. علي، المحقق الذي يعذّبها ثم يتزوجها، يُجسد تلك السلطة القلقة التي تمزج بين البطش والاحتياج، وبين الوحشية والتبرير الديني. لم يكن علي شخصية أحادية، بل كائنا ملزوما داخل منظومة قمعية تسمح له بأن يكون الجلاد والمخلّص في آن واحد. أما النساء في السجن، فهنّ جراحٌ ناطقة. لا يصرخن، لكن كل واحدة تحمل في داخلها رواية موازية للألم الإنساني، وكأن السجن خزان لذاكرة جماعية مكسورة.
الرواية تطرح سؤال الذكورة والسلطة بجرأة، وتكشف كيف يُعاد تشكيل العلاقات بين الجنسين داخل المنظومة القمعية. فعلي لا يمثل الرجل وحده، بل النظام الذي يسمح له بأن يتقن التبرير باسم الدين، ويعيد إنتاج القهر بمسميات شرعية.
وفي السياق ذاته، تكشف الرواية كيف يمكن أن تتحول المؤسسة الدينية إلى قناع سياسي، حيث تُستخدم النصوص كأدوات لتبرير العنف، لا للهداية. وهنا تتقاطع التجربة الشخصية لمارينا مع نقد ثقافي أوسع يفضح العلاقة بين السلطة والمقدس.
لغة الرواية جاءت فنية دون أن تتورط في الزخرفة، قوية دون افتعال، رصينة دون تكلّف. وصفت مارينا تفاصيل الزنازين، التحقيقات، العتمة، الألم النفسي والجسدي، بأسلوب سردي يتقن التوازن بين الأدبي والتوثيقي. الألم في هذه الرواية ليس أداة صادمة لشدّ القارئ، بل مادة حيّة تنبض بالمقاومة والصبر، وتُنتج وعياً لا يزال راهنًا.
وفي استدعائها لحكاية جدتها الروسية، لم تكن مارينا تبحث عن الحنين، بل كانت تحاول أن تربط معاناتها بجذور الهوية المتعددة، وكأنها تقول إن الاضطهاد لا جنسية له، وإن المعاناة تُورّث كما تُورّث الحكايات. بهذا الربط الذكي، منحت الرواية بُعدا ثقافيا وتاريخيا، يتجاوز التجربة الفردية ليضيء الذاكرة الجمعية، ويُمهّد لفهم أوسع لقضية الحرية والهوية والانتماء.
تُقدّم الرواية الذاكرة كبطل خفي، وكأن مارينا كانت تخوض معركة بين النسيان والتذكّر. كل تذكّر هو مقاومة، وكل محاولة للنسيان هي جرح جديد. الذاكرة هنا ليست مجرد أداة للبوح، بل مساحة صراع مفتوحة مع الذات والمجتمع والتاريخ.
من اللحظات الأكثر قسوة في الرواية، تلك التي تصف فيها مارينا زواجها القسري من علي، المحقق الذي مارس ضدها التعذيب ثم فرض عليها القرب الروحي والجسدي باسم الدين. هذا الزواج لم يكن حبا، ولا حتى تقاطعا إنسانيا، بل كان شكلاً آخر من التعذيب المقنّع، حيث تتقن السلطة لعبة الشرعية. الإسلام الذي اعتنقته لم يكن إيمانا، بل استسلاما للنجاة، والزواج لم يكن خيارا، بل تنازلا عن الإرادة في مقابل الحياة.
ليس في الرواية نبرة انتقام، بل وعي بالغفران. لم تكتب مارينا لتدين، بل لتفهم. لم تُجرّد بلدها من الكرامة، بل كشفت جراحه كي لا تتكرر. جعلت من تجربتها الخاصة مرآة عالمية تنعكس فيها كل أشكال الظلم، من أي مكان، وتحت أي شعار. هذه الرواية لا تحتفي بالمأساة، بل تُضيئها لتمنحها المعنى. منحت الوطن جرحها لا لتشوّهه، بل لتُعرّف العالم على وجهه الموجوع. كتبت كي لا تُنسى الحقيقة، لا لتُخلَّد كضحية، بل لتعيش كشاهدة. وفي ذلك تكمن عظمة النص: في بساطته، وصدقه، وشجاعته الإنسانية العارية.Ayaamq222@gmail.com