مقال | عُمان.. حين تتحدث الفطرة بلغتها الأولى

يكتبه: د. قاسم بن محمد الصالحي|

في زمنٍ تساقطت فيه الخصوصيات كأوراق خريفٍ عالمي، وباتت المدن تُشبه بعضها، كما تتشابه الواجهات الزجاجية.. تقف عُمان كاستثناءٍ نادر، كفكرة لم تُمس بعد، وكصوتٍ لم يخن لغته الأولى.. هنا، لا تزال الفطرة تمشي على قدميها، حافيةً من التصنع، عذبةً كالماء حين ينبع من قلب الجبل، ويجري في قنوات الفلج، صادقةً كوجه الفجر في القرى المعلقة على سفوح الصمت.

عُمان ليست محطة عابرة في خرائط السياحة، بل تجربة إنسانية تُعيد تشكيل العلاقة بين الزائر والمكان.. في شوارعها، في أسواقها القديمة، في حكايات “البيدار مع صوت المنجور، الطناف مع الإبل، النهام مع السفن، تسكن الأصالة لا كذِكرى، بل كنبضٍ حيّ، لم تغمره ضوضاء العالم ولا استهلاكه.. العمانيون لا يلبسون هويتهم كزينة موسمية، بل يعيشونها، يتنفسونها، ويورثونها كأمانة يجب أن تظل نقيّة.

كل أرضٍ تشبه الأخرى إلا عُمان، إنها تشبه نفسها وحدها.. ولذلك، فإن شبابها، ورثة الضوء والتراب، على وعيٍ عميق بأن هذه الخصوصية ليست رفاهية، بل مسؤولية في زمن الصورة والسرعة، حيث يُطلب من المجتمعات أن “تتماهى” لتُقبل.. يكون صوت الشباب العماني مختلفًا: صوتًا يحمي روح المكان لا مظهره، يحفظ حياء الجدات، واللهجات، يزرع النخلة كما يزرع الفكرة، ويمدّ يده للضيف دون أن يُفرط في طهارة البيت.

لا يعني الانفتاح أن نخلع هويتنا لنُلبسها للزائر، بل أن نُبقيها حاضرة كجمالٍ يُلهمه، كأفقٍ يتنفسه، لا أن نتحول لصورةٍ مكررة من مدنٍ باهتة.. هنا يأتي دور الضيف الحقيقي، الباحث لا عن مراكز التسوق، بل عن معنى الإنسان العماني في حضن طبيعته، عن دفء الذاكرة لا عن وهج المصابيح.. في عُمان، لا تأخذ صورة، بل تخرج بصورة جديدة عن الحياة.. نقول للضيف بصدق لا يعرف الادعاء: مرحبا بك إلى حيث لا تُباع الروح على أرصفة الترف، إلى مجتمعٍ لم يزل يضع يده في يد الأرض، إلى بلدٍ يعرض عليك شيئًا لا يُشترى: السكينة، الصدق، وطمأنينة القلب حين يُصادف الفطرة.. ويحمي هذا النسيج الذي تتداخل فيه الجبال، السهول، الاودية، الشواطئ، وكثبان الرمل مع القلوب، شباب لا تغرهم الدعوات المتكررة لنسخ كل شيء، فهم يملكون شيئا لا يُقلَّد.. فالشباب العماني هم الورثة الحقيقيون لوطنٍ لا يزال على فطرته الأولى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*