مرافئ | حتى لا يكون متحف جحال وخروس

بقلم/ حمود بن سالم السيابي

كان الوالد مستشارا في وزارة التراث، وذات مرة وهو في طريقه من مكتبه إلى مكتب سمو السيد فيصل، مر بقاعة انهمك فيها المصور عبدالله بن سالمين الخروصي  بتصوير بقايا آنية فخارية. فسأله الوالد ماذا تعمل  ياعبدالله ؟. فقال التقط صورة لهذا القحف الذي يقدره الاثريون بآلاف السنين فقال الوالد بعفويته المعهودة  ( لا تصدقهم ) فعقب المصور ضاحكا ( لازم نصدقهم لأنهم علماء آثار ). فقال الوالد ( تو بهذه العصا على ظهرك أعرفك عمر هذا القحف ) . تذكرت هذه القصة وأنا اتابع صاحب السمو السيد هيثم  بن طارق وزير التراث والثقافة يتجول في أهم متحف عماني سيفتتح قريبا، وتذكرت شكوك الوالد في تقديرات الكربون المشع لأعمار الفخار وهي شكوك يشاركه فيها   زوار اللوفر الذين يتسمرون وقوفا لساعات أمام الجيوكندا رائعة دافنشي، بينما يديرون الظهور لكل الفخاريات التي شربت منها الإنسانية الماء، وأوقدت تحتها النار لتطبخ وتأكل وتبدع.
ولكي لا يتحول متحفنا المرتقب إلى متحف جحال وخروس رغم قيمتها الأثرية، فعلينا أن نتفهم المزاج العام لزوار المتاحف كالمتحف المصري والأكروبولوس  والمتروبوليتان والأرميتاج، وأن نبحث عن تفسيرات منطقية لهرولة الزوار في القاعات الطافحة باللقى الفخارية والحديدية والعاجية من حراب وفؤوس ونبال،  بينما نرى نفس الزوار يطيلون الوقوف أمام المحسوسات   الحميمية فنراهم يتأملون بعمق كحل نفرتيتي، وعقوص كليوبترا، وبقايا حلم وردي على مخدة ميري انطوانيت . ونلمس الأثر الذي يتركه في نفوسهم سرير نابليون وأدوات المائدة في فرساي، وكهرمان قصور الروس، وفناجين شاي إمبراطور اليابان، وسجاد كسرى، وأعنة خيول المغول، وصولجان يوليوس قيصر وأعمدة هرقل .
ولكي لا يغرق المتحف العماني في العصور السحيقة لبلد قديم قدم الجغرافيا وشعب موصول بفجر البشرية ويتغافل الأمس القريب، فإننا نتطلع لأن نرى متحفا يعبر عن المحسوس من ماضينا . نريد متحفا نرى فيه حضورا لمسقط ونزوى وزنجبار وصحار وممباسا وصلالة ومالندي والرستاق ومكران وسمائل وجواذر وعبري وجزيرة كلوة والبريمي وزائير وصور ومقديشيو. ونتمنى متحفا ينقل عبق المكان الذي يشمخ عليه، فهو في مدينة تمثل أكبر متحف عماني حيث الجلالي والميراني وقصر العلم، وبيت جريزة والخندق والسعيدية وبيت فرنسا ومدرسة بوذينة ومسجد الخور وبنط مسقط.
ونتمنى أن يتناغم المتحف مع المكان الذي يشمخ عليه،  فيستضيف بعض ما تركه سكان مبانينا المسقطية وتركوه لنا ليشع في حاضرنا وفي القادم من أيامنا .
وبدلا من أن يفسح المتحف لحيز مكرر لفخار وحديد وعاج تتقاسم البشرية امتلاكه نتطلع لأن نرى كنوزنا الحصرية الممثلة بأقدم مصحف بخط عماني وبأقدم نسخة من مسند الربيع، وبصفحات من ديوان جابر بن زيد، وبمجلدات المصنف ومخطوطات منهج الطالبين وبيان الراغبين للعلامة خميس الشقصي . ونريد أن نشاهد في فاترينات متحفنا محبرة مؤلف كتاب الجامع وقلم العلامة جميل السعدي صاحب قاموس الشريعة وسيف ناصر بن مرشد وخنجر قيد الأرض وعمامة أحمد بن سعيد ودقل المركب الرحماني واسطرلاب السفينة سلطانة ومدافع سعيد بن سلطان وقبقاب الأميرة سالمة. ونريد أن نقرأ نقوش بنادق الفرنجة من أجناد البرتغال  وهم يفرون من نيران مدافع اليعاربة، ونريد أن نرى قلنسوة البوكيرك وهي تتجندل من سلالم الجلالي لتسقط في رمال مغب. ونريد أن نرى كتارة السيد هلال البوسعيدي آخر ولاة جواذر، وأوسمة السلطان برغش، ومكاتبات عزان بن قيس، والمخطوط الأول لديوان أبي مسلم، ومخطوطة تحفة الأعيان، وأول نسخة مطبوعة لجوهر النظام للسالمي، وعصا سالم بن راشد، وكرسي تتويج تيمور بن فيصل، ومطبعة خليفة بن حارب، ومفتاح بيت العلم القديم، والنسخة الأصيلة لاتفاقية السيب، وخاتم الإمام محمد بن عبد الله الخليلي، وخطاب التنازل عن جواذر، وبوليصة شحن أول ناقلة نفط، ومكبنة رفع الماء من آبار المعمورة وبهجة الأنظار ومفتاح قصر الحصن، والبيان الختامي للقاء السلطان سعيد بن تيمور والشيخ زايد في صلالة، والهاتف الساخن الذي يربط قصر الحصن ومكتب ناظر الشؤون الداخلية، وأول عملات ورقية ومصكوكات معدنية لسلاطين عمان وزنجبار، وأول جهاز لاسلكي بقلعة صحار ومفتاح سيارة سليمان بن حمير .
ونريد من القائمين على المتحف أن يخصصوا القسم الأهم في المتحف لعصر سيد عمان وسيد ساداتها مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله ورعاه بدءا ببيانه التاريخي الأول والسيارة التي استقلها من مطار بيت الفلج إلى عاصمة ملكه ومرسوم تغيير الاسم الجديد للدولة لتكون سلطنة عمان، مرورا بتغيير العلم، وجعل الريال العماني بديلا للريال السعيدي، وأول خطبة لأول صلاة جمعة لجلالته بمسجد الخور، والأسلحة التي رسمت بالدم والرصاص لوحات النصر على ذرى القمر وسمحان . ونريد من المتحف أن يفسح  مكانا لنجاحات العهد الميمون في الإنتقال بعمان إلى مراتب الدول العصرية  فيحفظ لنا المتحف ناقل الصوت لأول إذاعة وأول جهاز تسجيل وأول صورة صوتية للجولات الميمونة لسيد عمان، وأول مطبعة، وأول عدد لصحيفة، وأول كتاب يطبع في عمان وأول نسخة من موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، وأول نسخة من الموسوعة العمانية وأول نسخة للكتاب الأبيض للنظام الأساسي للدولة، وأول لوحة رسمها عماني وأشهر لوحة لعماني تزدان بها الجدران وأول طابع بريدي.
ومن دون هذه المحتويات أو بعضها أو مقارباته لها سيكون المتحف للأسف متحف فخاريات ولقى أثرية، وسيأتي رجال كالوالد ليشككوا في تقنية الكربون المشع لقياس الأزمنة وتحديد أعمار المهشمات . وسيأتي زوار لا يجدون لوحات إرشادية تقودهم لخنجر قيد الأرض، كما هو الحال في اللوفر حيث تأخذ الاسهم الزائر من المدخل الى آخر رواق تمارس فيه الموناليزا فن الإبهار الايطالي. ونقولها وبكل صراحة لا نريد متحف خروس وجحال تعبر عن فجر الإنسانية، بل نريد متحفا نرى فيه آباءنا بوجوههم وخناحرهم وسيوفهم وعمائمهم. ونريد متحفا يعبر عن فجرنا وشمسنا وأمسنا . ونريد متحفا يعبر عن الأباء العظام الذين دوخو التاريخ واتعبوا التاريخ وأبقوا لنا كل هذا التاريخ .

تعليق واحد

  1. إلى الأستاذ الفاضل / يوسف البلوشي المحترم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    يسرني جداً ، وأتشرف إليكم بكل التحية والاحترام ، كما أرجوا من أستاذي الكريم التكرم إلينا والمساعدة حول طلبي هذا بإرسال جميع المقالات من جريدتكم وجهات ( لمرافئ ) الموقرة ، وذلك نظراً لأهميتها ومتابعتها ، فقد ينقصنا مقالاتها الكثير منها ,,,, مع خالص شكري وتقديري

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*