يكتبه: حمدان البادي|
لم تكن زيارة مصنع العدوي للفخار بولاية بهلا نشاط سياحي عابر، بل كانت رحلة عبر الزمن حيث تتجلى الأصالة العمانية في أدق التفاصيل، ونافذة مفتوحة على إرث طويل من الحرف العمانية، حيث الإنسان العماني صنع حياته من أدواته الخاصة، تجربة تتجاوز حدود المكان لتأخذ الزائر إلى خمسمائة سنة بدهشة المستكشف الأول.
استقبلنا الابن صهيب العدوي بوجه بشوش وكأنه يستقبل الزائر الأول والأوحد بالرغم من إن المكان مزدحم، إلا أنه كان حريصا أن يأخذنا في جولة تعريفية في المصنع، كنت في البداية لا أعتقد أنني سأخرج بفائدة من طين وخرس وجحلة ومجمر، لا أعتقد أنها بحاجة لمرشد يشرح ماهية هذه الأدوات التي لا يخلو بيت منها، لكن ما حدث مختلف ومذهل لم تكن الجولة مجرد استعراض للمنتجات والمكان، بل كانت سردا لحكاية الطين في عُمان ولأسرة العدوي، الأسرة التي أبقت هذا الحكاية مشتعلة، من لحظة استخراج الطين من الجبال والسهول وحتى لحظة تحويله إلى قطع فنية تعكس تاريخ المكان والإنسان.
أخذنا صهيب في رحلة مع الطين، الرحلة التي تبدأ من جبال الحمراء حيث يتم جلب التربة الصخرية الحمراء أو ما يعرف “بالصلبوخ ” ومن ثم إلى الجبال والسهول المحيطة بولاية بهلا لأخذ الطين الأبيض أو ما يعرف “بالمدر”، مرورا بعدد من الولايات العمانية، كل ذلك في رحلة البداية حيث يتم تشكيل قوالب من الطين يتم فردها في الساحة الخارجية للمصنع لتجف قبل أن تأخذ للداخل ويعاد عجنها بالآلة مازجا تلك التجربة بين ما كان وما أصبح عليه الحال وما يسعون لأن يكون عليه المصنع.
إذن الموضوع يتعدى طين وتشكيل، بل هي رحلة فنية مكتملة وممتزجة بخبرة خمسمائة سنة، كما قال صهيب تتوارثها العائلة جيل من بعد جيل.
بعد ذلك يتحول الزائر من متفرج إلى صانع، يلمس الطين، يُشكله، ويستشعر الأصالة التي تنبض في هذه الحرفة. وقد وصف سعيد العدوي كبير العائلة ومعلمها هذه التجربة قائلا “المصنع ليس فقط للإنتاج، بل لتعليم الحرفة لكل من يرغب، ندرب الزوار، ونمنحهم فرصة لخوض التجربة بأنفسهم”.
يقول ذلك بصدق وبيده عجين من طين وهو يسألنا عما نريد تشكيله ليستعرض مدى إتقانه ودقة ما ينتجه بتلك القطعة الصماء من الطين لتتحول إلى منتج رهيب.
“بابا قال لي أستاذه”، هكذا قالت ابنتي سما ذات الأربع سنوات وهي تصف دهشتها في أول تجربة لها مع الطين، وهي تعيد تشكيله، ليس للعب كما اعتادت، بل لصناعة شيء ذي قيمة حقيقية، حتى أنا قال لي أستاذ هكذا أجبتها، وهو تعبير مجازي يعكس رقي أبناء العدوي الذين يُحسنون استقبال زوارهم، ويجعلونهم جزءاً من هذه التجربة الفريدة حيث يمتزج الترحيب بالتعليم في أجواء من الأصالة والدفء.
تروي الفخاريات جزء من همة الإنسان العماني في تطويع بيئته وتحويلها إلى تحف فنية تُجسد روحه، وتفاصيل حياته، حيث الخرس والجحلة والمجمر والاكواب وأواني الزراعة وهي امتداد الحاضر، وحكاية من الإبداع عمرها خمسة قرون، تُعاد روايتها كل يوم في هذا المصنع، حيث يدور الطين في عجلة الفخار، تماماً كما يدور الزمن، ليبقى شاهداً على أصالة لا تعرف الزوال.
منحني المصنع فرصة للتأمل وكيف اهتدى الإنسان إلى أدواته، كان شاهداً على أزمنة عابرة سادت وبقى ما يدل عليها تتجسد في تفاصيل المصنع وكيف يسعى أبناء العدوى لإبقاء عجلته تدور كجزء من تاريخنا الإنساني والاجتماعي وامتداد للتحف الفنية المعمارية التي تزخر بها بهلا من قلعتها الشهيرة إلى حصن جبرين وما بينهم من تفاصيل السوق والحارة ومفردات الإنسان.
انتهت الزيارة، لكن أثرها لم ينته، ونحن الذين خططنا لها كنشاط ترفيهي نبدد فيه إجازة العيد الوطني لكنها تحولت إلى تجربة إنسانية تروى حكاية الاستمرارية والإبداع، تجربة لا تنتهي عند حدود المكان، بل تُعيد تشكيل الوعي بقيمة التراث، كما قامت سما بإعادة تشكيل الطين بين يديها لتصنع كوبا من الفخار، عادت به إلى المنزل كمن ظفر بكنز ثمين.