23يوليو.. الوشم الأجمل في روزنامة الوطن


بقلم: حمود بن سالم السيابي |


تتدافع التواريخ التي تضع وشمها على الأعمار فنتناساها لكثرتها في الزحام إلا الميلاد الذي يزهر وشْمُهُ فنحييه بشوق العام الأول.
وتتعانق المناسبات في صفحات مفكراتنا فلا نتبادل فيها التهاني إلا عيد النهضة المباركة الذي يرفل فيه الوطن بحلله ، ويبرق بحليِّه فنستقبله بحميمية العيد الأول.
ورغم مضي نصف قرن على تمايل النارجيل في حديقة قصر الحصن في أصيل الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 ما زلنا نستقبل المناسبة في نفس حديقة الحصن وتحت هدير نفس الموج ، فنفتح عدسات الكاميرات على نفس الزوايا والأبعاد والمسافات لنصور الحصن المبلل بالمطر وهو يفرح ، ونقتنص لقطات تليق بنخيل النارجيل المثقلة بالثمار وهي تتمايل.
ومنذ اليوم الأول للنهضة والسماء سقف أحلامنا ، وما زلنا وسنبقى نشرئب بأعناقنا إلى السماء.
وكان التعليم تذكرة السفر التي قطعناها في تحليقنا إلى المستقبل ، وما تزال حقائبنا تتورم بالمزيد من الدفاتر والأقلام والكراسات وعلب الألوان لنغزل من سهاد القناديل شوقنا للصباح ومن رنين الأجراس أنشودتنا للعمل والبناء.
ورغم أن فارس هذا اليوم استكمل تكليفه الوطني وأنهى شوطه وترجَّل إلا أن المضمار مكانه ، والأشواط ممتدة ، والرايات تتداول من فارس لفارس وكابر لكابر.
وقد نحتكم لطبيعتنا البشرية فينخرنا الحزن حتى نخاع النخاع ونحن نتذكر الفارس الذي ترجل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه ، إلا أن الوطن سرعان ما يحضر ببيرقه وعمامته واستنهاضه فيعلو على الجميع.
وتتوهج قصائد وجعنا على السلف العظيم إلى وثيقة عهد ممهورة بالدم للخلف العظيم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه.
وفي هذا اليوم ستخرج صحف الصباح بعناوين كبيرة بلون الحنَّاء تسرد حكاية وطن كبير ينتصر على نفسه فيغادر أبناؤه الجبال إلى حضن الوطن ، ويعلقون البنادق على الأوتاد ليمتشقوا “الهيب والمسحاة” والمحراث ، وفي مرحلة لاحقة بتحكمون في أزرار الحواسيب فتتغير العقيدة من حرق الأخضر واليابس إلى شق السواقي لإدامة الإخضرار، وإلى تقنيات السقي والزرع والحصاد وفق المعادلات الرقمية.
وفي هذا اليوم ستبدأ محطات التلفزيون إذاعة الأناشيد الوطنية،
وستخصص برامج الصباح حديثها عن العيد ، وسترتدي المذيعة الزي الوطني ، وستضع الغوص والشنبر في الوجه والكثير من الخواتم في الأصابع ، وسيزدان الرسغ بالبنجري المشوك ، لتبقى المناسبة في ذاكرة الطلائع بمعانيها وقيمها ، ويتكرس التحول برمزيته ودلالاته وفلسفته ونجاحاته.
وسيأخذنا التَّحْنان هذا اليوم إلى صلالة الوفية ، وقد استلهم المشهد ساعة الصفر من أنبل ثورة عربية لقيامة الوطن.
وفي هذا اليوم سنتمتم بكلمات “الهبُّوت” وإن لم نعرفها ، ولكننا سنجتهد لنقاربها.
وسنؤدي البرعة بالكثير من العفوية والصدق حتى وإن لم نتقن مقامات الألحان والحركات.
وسنستعيد في هذا اليوم تضاريس الطريق المترب من الحصن إلى “الأرْيَف” ، وسنتتبع غبار اللاندروفر المكشوفة والتي تنقل التاريخ من عتبة الحصن إلى مدرج الإقلاع والهبوط بالقاعدة الجوية.
وسنبقى على مسافة تمكننا من رؤية صانع اللحظة الماجدة بلحيته الطويلة وعمامته الصحارية وهو يأخذ مكانه في طائرة الخليج التي ستحلق به من قمم سمحان والقمر إلى شوامخ مسقط.
ولا بد من أن تكون الرحلة أطول مما هي عليه اليوم بالقياس ببطء الطائرات القديمة ، ولكنها ستكون الأقصر بقياسات الفرح في الزمن الذي تختزله الطائرات الحديثة.
ورغم أن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، سبق وسافر إلى الجهات الأربع في المعمورة ، إلا أن السفر بين صلالة ومسقط يبقى الأهم في تاريخ التطواف الجوي ، فللمرة الأولى يكون فيها المسافر هو الراكب “رقم واحد” في الطائرة ، ورقم واحد في الوصول ، ورقم واحد في الخمسين سنة التي عاشتها عمان معه وفي ظله.
وفي الرحلة الاستثنائية الأولى لعاصمة ملكه وملك آبائه جلس جلالته بجانب النافذة كمشتاق للجبال السمراء كما شمخت في ألبوم والده ، ولزرقة خليج مسقط كما تكرر في مشاهد المراكب العابرة بين مسقط وموانئ العالم ، ولأبراج الجلالي والميراني كما شاهدها في طوابع بريد سلطنة مسقط وعمان ، ولسارية الهيبة في قصر العلم كما ارتعشت في كتب الغربيبن، وللدرب الذي يمشيه آباؤه لصلاة العيد بين بوابة القصر وعتبة مسجد الخور كما جللته التكبيرات ، وإلى دروازات وبوابات مطرح ومسقط المغزولة بليل القناديل.
وبينما يمر شريط النهضة في الذاكرة فقد شاءت الأقدار أن لا تسدل الستارة بالرحيل بل تتجدد الملحمة فيمتشق الوريث سيف المجد ويحمل الراية فيترسم ذات الخطى بجعل صورته الشريفة التي ستزدان بها الحيطان بجوار صورة الأب المؤسس.
كما تتجاور الصورتان في مستفتح كل كتاب مدرسي.
ويتواصل الوفاء للتاريخ ولبطل التاريخ فيصدر سيد عمان حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أمره السامي باستمرار الثامن عشر من نوفمبر كعيد وطني ودون تغيير لتسلسل الأعياد بحيث لا يمثل العام 2020 بداية للتسلسل بل ليستكمل الرقم فتحتفل عمان هذا العام باليوبيل الذهبي لنهضتها المباركة.
كما، وجه حفظه الله ورعاه، ببقاء الصورة الشريفة لسلفه العظيم قابوس بن سعيد، في التصميم الجديد لأكبر عملة في البلاد.
وهكذا تتزاحم الأيام ، إلا أن يوم الثالث والعشرين من يوليو يضع وشمه على الأعمار فنتذكره كما عشناه ، ويتذكره أبناؤنا كما عاشوا فرحة تجدده فينا .
وسنورثه أحفادنا ليتذكروا الانطلاقة من صلالة الوفية إلى رحلة طموحة سقفها السماء.
—————————
مسقط في الثالث والعشرين من يوليو 2020.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*