بقلم: حمود بن سالم السيابي | حين وقفت على قبره في حمص أتنفس زمنا استثنائيا لا تجود الأيام بمثله، كانت الجروح تثعب دما، رغم أنه لم يستشهد، وكان السيف خارج غمده وكأنه يتأهب لغزوة جديدة، أو ينتظر أمرا عمريا يعيد له الراية من جديد من ابن الجراح .
وكان الرجل لا يتكفن بالأبيض ككل الأكفان، بل بكامل عدة الحرب شوقا لتكبيراتها وصليل سيوفها، وهو الذي تكسرت في يده تسعة أسياف في مؤتة، فاستحق وساما محمديا لم يتقلده صحابي لا قبله ولا بعده، فهو سيف الله المسلول، فتمنيت أن يكون خالد بن الوليد عمانيا، رغم أن تاريخنا متخم بالكبار، وتمنيت أن يصطف هذا القرشي المخزومي ضمن قبائل كتاب أبي (إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان) وليكسر بسيفه المسلول الهدنة المريبة بين الشام وإسرائيل.
وليس ببعيد من ضجيع حمص تتسامى قامة بطل حطين لتطاول مآذن الجامع الأموي، فيجرفني زحف المصلين في الجامع إلى المبنى المجاور حيث صلاح الدين الأيوبي لا يزال وهو في قبره منذ قرون يرعب إلى اليوم نتانياهو ووزير دفاعه موشي يعالون، فتمنيت أن يكون هذا الكردي عربيا، وأن تكون الأيوبية قبيلة عمانية تلبس (قلادة) أخي هلال السيابي التي حوت قبائل ومدن عمان.
واقتربت من العراق جمجمة العرب، وفتوحات سعد وقادسية صدام فشممت المتنبي في دجلة والفرات، ورأيته يتلألأ في ثريات جامع أبي حنيفة في الأعظمية وستائر ضريح الإمام موسى في الكاظمية، فتمنيت أن يكون شاعر سيف الدولة الذي ينظر الأعمى إلى أدبه وتسمع كلماته من به صمم عمانيا، وأن يضيفه الشيخ محمد بن راشد الخصيبي في كتابه (شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان).
ودخلت كرمة ابن هاني الغافية على ضفة النيل، حيث شوقي بتفاصيله الصغيرة والكبيرة يملأ المكان، وهو ينشد (ريم على القاع بين البان والعلم)، فتمنيت أن يكون شوقي عمانيا يصطف مع النبهاني والستالي وبن شيخان وبن عديم وعبدالله الخليلي وسالم بن حمود السيابي وسليمان بن خلف الخروصي وهلال السيابي.
وإذا كانت التمنيات مشروعة فإن التزييف هو الممنوع، وانتزاع القامات من أروماتها ومنابتها هو المحرم، واختطاف العظماء من كتب التاريخ ليكتبوا بهم تاريخا لا خيول فيه ولا فرسان، ولا وقائع ولا شهداء، هو الجريمة الكاملة.
هاهو العماني المهلب بن أبي صفرة بطل خوارزم وفاتح جرجان وطبرستان، ينتزع من أرومته العمانية ليمنحوه نسبا غير نسبه، وتاريخا غير تاريخه، وجغرافيا غير جغرافيته، ولو اكتفوا بالتمني كما نتمنى، لكان أسلم لهم من اقتراف آثام التشويه والتزييف.
وهذا ناصر بن مرشد اليعربي ابن الرستاق الذي يغلي الدماء في عروق البرتغاليين لذكر اسمه، لا يدعونه يستريح في روضته بمقبرة الأئمة بنزوى فيختطفون بطولاته، ولو تمنوه أو تفاخروا به كونه يمثل عمان التاريخية بمساحتها الأوسع ونطاقها الأشمل لكان الأمر مستساغا.
وابن ماجد العالم والملاح والمستكشف العماني يدخل بعض المناهج الدراسية بسيرة غير سيرته، فيستكثرون ربط إنجازاته العلمية بعمان في الوقت الذي يقرون فيه لجاجارين كأول سوفياتي أرسل إلى الفضاء ويعترفون بأمريكية نيل أرمسترونغ كاول إنسان حط على القمر. والخليل بن أحمد الفراهيدي العماني الذي ألهمه خرير الأفلاج ببحور الشعر، وتعلم من وقع حوافر الخيل على حصباء ودياننا عروض القريض، ومن الطرق على أواني النحاس في بلد النحاس تشطير الأبيات، تتنازعه جزيرة العرب وبلاد الفراتين، رغم أن (الدي.أن.أيه) يثبت عمانيته حتى النخاع.
والعالم العماني المبرد صاحب كتاب الكامل الذي يمثل الركن الرابع لأدب العرب، بعد البيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والنوادر لأبي القالي، استكثروه على عمان فأدخلوه في تعقيد الأرومات والأمكنة.
ونال ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء نفس مصير المبرد، ولم يسلم مصقلة بن الرقية، ومن بعده ابنه كرب بن مصقلة من استكثار نسبهما لعمان، فلهما خطبتا العرب (العجوز في الجاهلية) و(العذراء في الإسلام).
والقائمة تتسع لمئات العظماء الذين أعطوا لعمان قيمتها التاريخية المضافة، ككعب بن سور أول قضاة الفاروق على البصرة بعد تمصيرها، والربيع بن حبيب صاحب المسند، وأبي حمزة الشاري المختار بن عوف الذي حيرت خطبته المبصر وردت المرتاب. ولعل الفرق في النظرة بيننا وبينهم، أننا نقف بالكثير من الإجلال والإكبار عند سير العظماء في أمتنا، فنستشعر عظمتهم ونتمنى أن تكون أرحام بلادنا هي التي أنجبتهم، بينما يقف الآخرون عند سير عظمائنا فلا يكتفون بالتمنيات، بل يعمدون على إختطاف القامات والسير والمنجزات والامكنة.
ولعل التساهل هو الذي شجع لان يستمر كل هذا التزييف والتحريف والتبديل والتغيير، فرتع من رتع في فردوس تاريخنا ورياض جغرافيتنا، واختاروا أرباب السيوف والأقلام، من دون أن يدركوا حاجة السيوف لأيد كيد سيف الله التي تكسرت فيها تسعة أسياف، ولم يعرفوا حاجة الأقلام إلى الفكر قبل الحبر لتسيل نورا يضيء الدنيا والدين. أيها السادة خذوا ماشئتم وانصرفوا، و جنسوا البابلوه والليوا ونعيش الزار، واتركوا لنا المهلب والمبرد والخليل وابن ماجد واليعاربة.