بقلم الاستاذ : حمود بن سالم السيابي
————————
غدا سينكشف الخريف.
وبحر العرب سيسترد كل الغيوم.
وستشرب الأرض فيروزها.
وغدا ستؤوبُ سيارات الدفع الرباعي باتجاه الشمال محملة باللبان و”المشلي والصبيغة والمجامر والدخون” والحكايات.
وغدا سيعود كل المصطافين وقد اتسعت الهواتف لآلاف الصور الموشاة بالقفشات والقهقهات.
إلا أن طارق وحِمْيَر لن يعودا مع العائدين.
ولن تكون “جونية المشلي” بدبَّة السيارة ككل اصطياف.
ولن تشعل بلدتهم جمر مباخرها للدخون.
ولا “الحوجري” سيهفهف على وسائد الليل.
ولا تكايا السبلة ستتنفس صباحاتها بالبخور.
ولن يتمايل رأسا طارق وحِمْيَر على لحن “أهجريني” لأحمد مبارك غُديُّر في مسجَّل السيارة. ولن يتجاوبا مع توجعات أغنية “مسافر” لسالم علي سعيد ، فالإطارات وحدها ستعوي كما الريح عبر الطريق الطويل .
وبينما تستعيد جزيرة العرب فصولا زاهية لنخوة عمانية بعمر الوطن.
وتتناقل مجالسها أمثلة لعمانيين يتحنكون بالشهامة، ويشربون الإيثار مع حليب الرضاع، فإن السبلة العمانية لن يدهشها صنيع طارق وحِمْيَر لأنها ربتهما على ذلك.
ولن تصفح عنهما لو أظهرا عكس ذاك الصنيع.
ورغم أن بواكي الشهيدين في عريش العزاء يستشعرن الفقد، ويسترجعن بحرقة ضحكاتهما في المكان والشقاوات التي لن تعود.
إلا إن الضباب الذي يوشك أن ينقشع من سماء ظفار سيعاود التكثف في مآقي أمهات طارق وحِمْيَر.
وستسيل العيون سواقي دمع وجمر.
ومع ذلك لن تكره الأمهات الخريف.
وسيشد الجميع الرحال في قابل الصيف.
وستنساب القوارب على فيروز دربات.
وسيمدون المباسم في قعر حبة “مشلي” من الباعة على قارعة من دروب الدهاريز.
وسيمرحون في سهل إيتين مع أطفال تشرئب أعناقهم نحو طائرة ورقية.
أو نحو وجهي طارق وحِمْيَر يبتسمان ليطفح الأفق الرمادي بقوس قزح.
ورغم استحالة نسيان وجهي طارق وحِمْيَر إلا أن صنيعهما الذي تتناقله جزيرة العرب بكل إكبار ، وتتغنى به خيام الشعر وسهرات الربابة ، وتوشوش به العرب شبابها وصباياها فلن يكون هذا الصنيع بمعزل عن ألف طارقٍ آخر وألف حِمْيَرٍ تتلألأ بهم الأزمنة نخوة وشهامة وإباء ونجدة بتعدد المواقع والظروف والتفاصيل.
وقد تزدان الشوارع بإسميهما يوما.
ويقترنان بلافتة مدرسة، أو مركز إنقاذ في عاصمة من العواصم.
أو يتوشحان أنواط الشجاعة من هذا القائد وذاك.
إلا إن نقش اسميهما على جدار القلوب هو الأليق بعريسين حملا الروح على الراحتين.
وتخيَّرا ممرَّا للجنة بإذن الله عبر كوثر دربات لتزفهما السماء.
لقد عاد المصطافون إلى الديار ليتبضَّعوا ليوم النحر جدي العيد وليصوموا الوقفة.
إلا إن طارق الناصري وحِمْيَر الناصري سينشغلان هذا العيد عن التبكير إلى المصليات.
ولن يشمرا عن الساعدين ليذبحا ويقطعا ويجهزا خصفة الشواء، فحطب السمر ما زال مبلَّلاً بمدامع العزاء.
ونار التنور ستتباطأ في الإشتعال.
وحين يصفو الأفق وتبتلع الأرضُ كلَّ فيروزها ستخضِّب الصبايا الأكف.
وسيمتشق الشباب السيوف وسترزف البلاد في زفاف العريسين ، فطارق وحِمْيَر على حواصل خضرٍ مع الشهداء يملآن السماء.
وسيبقى الإيثار أجمل “براند” صنعته عمان.
———————
هامبورج في ١٤ أغسطس ٢٠١٨م.