بقلم الاستاذ:
حمود بن سالم السيابي
كان مخيم الزمايم هادئا ليلة وصولنا إليه إلا من هاتف “الدنكل” ينقل لوحات الفرح عبر الطريق الممتد من سيح البركات إلى سيح الزمايم.
وكانت الليلة شتوية إلا من دفء الصوت القادم من بيت البركة معطَّراً بأسئلة أمِّ عمان الغالية ودعواتها بأن تكون الجولة خضراء كسابقاتها من الجولات.
كان الطرف الأول على الخط هو المصور الخاص لجلالة السلطان محمد مصطفى ، وعلى الطرف الثاني منه سيدة عمان وأخت الرجال السيدة ميزون بنت أحمد المعشنية وهي تعرِّش بعاطفتها غمامة على السيارة الخضراء ذات المطارتين حِللٌَاً وترحالاً.
وكانت مجاورة خيمتي لخيمة المصور الكبير محمد مصطفى ووداعة ليل الزمايم وقوة السمع يومها تتضافر لتجعلني طرفا على الخط بين بيت البركة العامر والمخيم السلطاني بسيح الزمايم.
كانت المكالمة طويلة لتجعل الزمن قصيرا ، والمصور الكبير محمد مصطفى يتحدث عن الوجوه المغسولة بالفرح والتي انزرعت في الدروب منذ الفجر وهي بكامل زينتها لتستقبل سيد عمان كيوم عيد.
وكان المصور يحدِّثُ سيدةَ عمان عن كهولةٍ تنازع الأنفاس وهي تركض لتقف على جانبي الطريق لتأخذ مكانها في يومٍ من أيام عمان.
وكان يحدثها عن الكُحْل الذي يسحُّ مع دموع الفرح في وجوه الصبايا ، وعن العمائم الشامخة التي تنحني لمرور الموكب فتزداد شموخا.
ويصف لها الرايات التي لونت أصيل السيوح والأهازيج التي تجعل جغرافيا الموكب تحتشد لأداء نشيد القدوم الميمون.
وكان يضعها في صورة المدن التي تتجدد مع كل جولة وهي ترفل بحلل البهجة ، وعن محمل الخير الذي ينيخ مطاياه هنا وهناك.
وكان لمعان الخناجر والسيوف ينتقل مع وميض أزرار هاتف “الدنكل” إلى حديث الطرفين ليجعل الليل غير الليل والسيح غير السيح.
ولقد كان محمد مصطفى أميناً في نقله الحي لأخت الرجال عن أحوال الناس كما ترصده “كاميرته” وعن مشاعر الناس كما تعجز عن وصفه كل كاميرات “الكانون والنيكون والهازلبلاد”.
وكان الصوت من الطرف الثاني يتسلل همسا ولا أكاد أسمعه ، فبيننا قماش الخيمتين رغم سكون الليل ، ورغم تسيد “الدنكل” خطوط التواصل.
إلا إن إجابات محمد مصطفى تقرب أسئلة سيدة عمان وأدعيتها بجولة خضراء في البوادي الممرعة.
تمنيت ساعتها أن أخطف الهاتف من يد محمد مصطفى وأواصل المحادثة ، لأضيف على المشهد زواياي الخاصة ، أو لأطلب منه مناولتي السماعة لأكمل الحديث ، إلا إنني تحرجتُ وليتني تجرَّأتْ.
وبينما يطفئ محمد مصطفى هاتف “الدنكل” وقد أنعشته المكالمة كنت أبدأ أنا مكالمة “افتراضية” مع سيدة عمان لأحدثها عن السيارة الخضراء ذات المطارتين وهي تغادر نطاق الخيمة الكبيرة لتبتعد عن نطاق المخيم بل ونطاق السيح , فسيد عمان يعس المكان ويتنزل كليلة القدر على قلوب تنتظر ، وعيون تتوسد الرجاء.
وكنت سأحدثها عن السيارة السلطانية وهي تمخر هذا السكون وقد سبقها الكف الندي والأماني الخضراء .
وكنت سأحدثها عن مشاهد حنوِّ سيد عمان على كهلٍ في الهزيع الأخير من عمره جاء ليعانق سيد عمان في هذا الهزيع الأخير من الليل فتتمدد خيوط الرجاء في تقبيل الأكف الندية ، ويتجدد العمر الذي يشرق كليلة قدره .
وكنت سأخبرها عن السيارة وهي تتوقف عند عائلة جاءت من خارج عمان لتنتظر سطوع أنوار السيارة لتسطع حياتها في تحقق أمانيها.
وكنت سأخبرها عن شاب يتبع السيارة فيجري وراءها ، أو يتقدمها فيلتف معها , بل وتغلبه شقاوته فيتعلق بباب السيارة. وسأحدثها عن مشاهد شاب يندفع بقوة وهو يحمل أمنية المصافحة ليد لطالما أغاثت , وليسلِّم اليد الحانية أمنية الإلتحاق بعمل , فينال أضعاف ماتمنى .
وبينما يسابق النوم جفني محمد مصطفى وقد تدثر بالمكالمة المستحقة ساهرت لوحدي برد الزمايم وطاردتُ كل قطعان المها والظباء لعل النوم يقترب مع لهاث المطاردة ، إلا ان المطاردة طالت ليسبقها الصبح.
ولقد تكررت المكالمات بين خيمة المصور محمد مصطفى وبيت البركة العامر من خلال “الدانكل” وفي اكثر من سيح سلطاني. وتكررت مشاهد تعلقي بأمنيات مناولة محمد مصطفى السماعة لأكمل ما لم ترصده الصورة.
وفي مساء كئيب كهذا اليوم الثاني عشر من أغسطس ١٩٩٢ ، وكنت بمكتبي بجريدة عمان حين رنَّ الهاتف لأستقبل مكالمة تمنيت أن لا أستقبلها من وزارة الإعلام لتنبهني إلى بيان هام سيصدر من ديوان البلاط السلطاني وسيذاع بعد قليل.
وبأعصاب مشدودة رفعت الهاتف لأبلغ سكرتارية التحرير بإلغاء رسم الصفحة الأولى لنعيد رسمها لاحقا بمادة جديدة وبـ”مانشيت” جديد يلتقي وبيان النعي لأخت الرجال وسيدة عمان كما تلاه بصوت متهدج المذيع علي بن خلفان الجابري.
لقد رحلت السيدة الجليلة ميزون المعشنية من دون أن أتشرف برؤيتها إلا في الصور.
وأسلمت الروح لبارئها قبل أن تتأتَّى المناسبة لشرف السلام ولو عبر هاتف متنقل بين السيوح السلطانية وبيت البركة.
وبدلا من أن أهيئ نفسي لمكالمة أنقل لها شجنا يضاف إلى شجن المصور الكبير محمد مصطفى رحت أبكي على الورق وأنا أكتب إفتتاحية جريدة عمان التي عنونتها بأخت الرجال.
وفي زيارة لي لمدينة طاقة قبل سنتين مررت بدربات فتوهمت أنني رأيت وجهها البهي على صفحة النهر.
ربما لأن دربات كان صافيا كسريرتها. وربما لأنها تستريح تحت قطيفة من عشب الضفاف فتجددت أمنيات المكالمة الهاتفية.
إلا أن مطر الخريف تسكَّبَ فتلاشت الصورة في دوائر تماوج الماء لينقطع الخط الواهن للأمنيات.
رحم الله سيدة عمان وأخت الرجال.
————————
هامبورج في الثاني عشر من أغسطس 2018.