بقلم الاستاذ والأديب :
حمود بن سالم السيابي
————————
ماطرة بانكوك هذا الصباح والتكسي السيامي المجنون يعتصر المسافات بين كهل أثقله العمر وأحناه المرض فيذرع الدرب وقد اتكل بعد الله على تركيز السائقين ليدعوه يمر بسلام وهو يتوكأ على عصاه ويتأرجح في اليد الأخرى كيس دواء، وبين خليجية شامخة كشجر الشوارع تعبر الطريق بثقة وتتحرك كخيل سبوق وقد تلفعت بعباءة الإحتشام وبرقع العفاف.
أتنقل بين قتامة وجه سائق التاكسي وسواد الأفق فالسائق ضاق ذرعا بالعيش ويسأل كل الذين يركبون بجواره مساعدته بعقد عمل في الخليج ، والأفق المثقل بالغيم وهو يتخلى عنه بسكبة واحدة.
حتى “نشافات” المطر في المرآة الأمامية للسيارة السيامية أصابها الإعياء وهي تجاهد مطرا كأفواه القرب فتزيد من توتر سائق التاكسي الذي يرى المطر معطلا لرزقه ، بينما تفرحنا في عمان إطلالة المتنبئ الجوي حامد البراشدي في التلفزيون وهو يتابع غمامة عابرة في الخريطة فنسأل الله أن تتسكب لنضرب المواعيد مع الأودية والشراج لنفترش ضفافها بسط نايلون وتمرا وقهوة ومرحا وضحكات.
يزداد تسكب المطر ويزداد توتر السائق الذي يرى أن حظه يتأرجح كهذه النشافات التي تلوح لميزاب السماء بينما أرى نشافات السيارة كعرف مهرة يداعبها الهواء.
أحاول إقناعه بأن لحظة تسكب المطر من مظان إجابة الدعاء ولكن بقايا خمر البارحة في عينيه يجعل الإقناع عبثيا.
ضغطت على زر موجة الـ “أف أم” في راديو السيارة ليتسلل صوت تايلندي حزين يكاد يبكي منه الراديو قبل أن يبكي وراءه المستمعون.
عاجلت بإغلاق الراديو لأواصل الإستمتاع بمرح المطر، إلا أن السائق أعاد بعناد الضغط على نفس الزر ليتوقف عند نفس المحطة، وقد لامست الأغنية ذكريات وجروحا غائرة لديه، فانطلق يدندن وراءها بصوت حشرجته السجائر الرديئة.
ومن دون أن أطلب منه تطوع من تلقاء نفسه ليقارب معاني الأغنية إلى إنجليزتي المكسرة.
تقول الكلمات كما فسرها السائق :
“تقتربين فأنسى التنفس.
كنتِ حلم يقظة مذهل منذ لقائنا الأول.
لقد سئمت الإحتفاظ بأسراري في قلبي
ومن المحبط أن يعجل البوح بهروبك”.
نغادر “سوكومفيت إلفن” وعلى يميننا فندق “زينت” يعج بالمرضى والسياح ، وعلى اليسار فندق “جريس” وقد ضاق بأبناء الخليج.
نقترب من “النانا رود” والشباب الخليجي بالبرمودا وقمصان “البرشا والريال” يستبقون المحلات الموصدة الأبواب ليقرأوا من بين الشقوق ماركات الساعات الناعسة لضعف البطاريات أو لرداءة النسخ ويتحسسون جلد الحقائب وأحزمة البنطلونات المسلوخة من جلود التماسيح والضفادع والثعابين من الفاترينات الزجاجية المعتمة.
لم تفرك بانكوك عينيها بعد من سهاد وكوابيس البارحة ، ووحدها مراجل “أبي دبة” تغلي على مندي الظهيرة وقدور شهرزاد موقدة لمدفون العشاء ، والشباب في زواريب “فريدة علي” يترنحون وهم يغزلون المطر ويهيمون كهذا المغني القادم من الـ “أف أم” أو كهذا السائق المسهد العينين بالخمر والضيق من نفسه.
انعطفنا يمينا باتجاه الماريوت ومعنا المطر والصخب فنمر بالنوفوتيل ففندق بارك حياة فالإنتركونتننتال فالقصر الذي يرفع لافتة شرطة بانكوك فمول سنترال وورلد فمول سيام باراجون ثم مول “أم بي كي” فمستشفى سوكومفيت فالحي الصيني فوزارة الدفاع فدائرة الفنون فجامعة “سليباكورن” فمنطقة المعابد والقصور الملكية بينما موجة الـ “أف أم” في التاكسي السيامي لا تزال تتنقل من الحزن إلى الجرح ومن “البوب إلى الجاز” لتتلاعب بانفعالات السائق المجنون.
يتوقف التاكسي تحت شجرة زام معمرة أو هكذا بدت من ثمارها البنفسجية المتساقطة على الرصيف لأعبر الشارع الذي يعج بباعة التنانير لتغطية سيقان الأوروبيات القادمات من الأقاصي البعيدة لزيارة بوذا الزمردي من دون أن يتسترن بما يناسب ووقار الدخول على بوذا الزمردي “المتيقظ والمستنير”.
لقد جاءوا إلى محراب بوذا لاستمطار رحماته وبركاته ، وجئتُ بافتتان الزائر لمحراب الفن والجمال.
وجاؤوا إلى معبود يرونه ينفع ويضر، وجئت إلى النسخة التايلندية لمعبود قريش “هبل واللات والعزى”.
وجاءوا إلى قدس الأقداس، وجئت إلى ملحق باذخ للقصور الملكية لا قدسية له مهما أغدق ملوك “تشاكري” على بنيانه القناطير المقنطرة من زمرد الدنيا وعقيقها وفيروزها وذهبها وفضتها.
أقف مبهورا لهذا الصنيع التايلندي المتقن الذي ارتقى بالنسخة التايلندية لمعابد بوذا لتكون الأجمل عالميا بعد أن ضخ البناؤون في كل سنتيمتر مربع من حيطانها وأعمدتها وسقوفها وأرضيتها كل هذا الإعجاز المعماري من الفصوص والمرايا والجواهر والأحجار.
أندفع وسط سيل جارف من البشر تتلقفني نقطة تفتيش وتستوقفني نقطة التحقق من احتشام الزوار للمكان ، ويلزمني طابور الإنتظار لأخذ دوري في شراء التذاكر لتترصدني عيون التأكد من خلع الأحذية ومن غلق كاميرات الهواتف في داخل المعبد الزمردي.
هذا هو “سدهارتا جوثاما” إذن والمعروف ببوذا.
وهذا هو الشخص الذي يملأ آسيا منذ سطوعه من تحت شجرة تين مغروسة بين الهند والنيبال بعد أن هجر زوجته وتخلى عن بذخ الحياة في بلاط أبيه فتقشف وتسربل الزهد لكي “يستنير” و “يتيقظ” وليخرج بعد سنوات من تأملاته في الكون والناس بـ “أن سر المتاعب يكمن في رغبة الناس في الحياة ، وسر راحتها يتحقق بقتل هذه الرغبة”.
أقارب بين ملامحه وحكمته فتسطع “حقائقه الأربع النبيلة” كما يسميها فأغرق في الجنون والأوهام والخرافات.
واتأمل وضعية جلوس بوذا وما يسميه بـ “الدرب الثماني النبيل” الذي اختطه لأتباعه فتخنقني الفلسفات والأساطير.
أتأمل شابين آسيويين يقفان أمام قدر نحاسي مملوء بالماء فيغمسان زهرة خضراء في القدر ليعمدان رأسيهما بخرافة الماء المقدس ، حسبته تصرفا فرديا لشقاوات عاشقين إلا أنها ممارسة تعبدية فوراء الشابين يمتد طابور طويل ينتطر دوره ليغمس الزهور في ماء بوذا.
يتصاعد انبهاري بالمكان وما زلت بعد خارج قدس الأقداس للمعبد ، وتتصاعد مع الإنبهار تساؤلاتي لهذا الإهتمام المليوني الذي يتنادي كل يوم في آسيا ليقدم أمثلة لمحبته وجنونه لتمثال صامت صنعته أياد قد لا تعرف الآخرة والبعث والنشور ، وليس لها اشتغالات بالأسئلة الكونية.
أدخل الغرفة الأخيرة للمعبد والتمثال يتلألأ كالحلم والناس يجلسون في حضرة سطوعه في صمت وكأن على رؤوسهم الطير والحراس يتابعون عشاق الجمال من أن يختطفوا صورة لقدس الأقداس.
هزني الجمال ولم تهزني الأفكار والفلسفات فأغادر مثخنا بشجن البذخ في البناء ونزعات الأنفس التي تلتمس الراحة في القيم والنبل وإن تسربلت بالمعجزات المتوهمة وغياهب الغموض.
ألحق بالسائق الذي استمر واقفا خارج المعبد تحت شجرة الزام يدحرج ذكرياته وجروحه ، رغم أن لديه الكثير من الآثام الواجب التطهر منها ، إلا أن بوذيته ترى التمثال الزمردي لبوذا شأنه شأن بوذا الخشبي الذي تبيعه عجوز في أكشاك السوق الشعبي ، وبدلا من أن ينقد حارس المعبد خمسمائة بات ليصلي سيشعل عود ند ليحرقه في التمثال بمدخل حارته.
لقد اختار البقاء في ظل شجرة الزام يقلب ذبذبات الـ “أف أم” التي تعزف على وتر صباباته “تقتربين فأنسى التنفس”.
نخرج من بذخ المكان باتجاه نهر “الميكونج” القادم من هضبة الدلاي لاما ليتسكع في عدة بلدان قبل أن يتبعثر في بحر الصين الجنوبي.
أقف عند ضفة النهر قبالة “آسياتيك” حيث بانكوك تخرج من ربقة الأساطير وزحام العشوائيات إلى عواصم الألفية الثالثة فأرى ناطحات السحاب وقد تكسرت ظلالها على صفحة الميكونج والسفائن تتهادي على موسيقى “البلوز” والسياح يلعقون البوضة والفرح.
وقبل أن أعود إلى “السيكومفيت ألافن” وأترجل من التاكسي السيامي عند باحة الفندق ما زلت مسكونا بزمرد عيني بوذا والماء المتسكب من الزهر الأخضر على الرؤوس المنتظرة لبركات من ليست بيده البركات ولرحمات من يحتاج بنفسه للرحمات.
وتبقى أغنية الـ “أف أم” في التاكسي السيامي “تقتربين فأنسى التنفس” أجمل ما بالدرب منذ خرجنا مع ضحكة الصبح وإلى أن عدنا ومعنا ومضة الزمرد لعيني بوذا.
————————
بانكوك في الثاني من مايو 2018.