بقلم الاستاذ: حمود بن سالم السيابي
يوم كان البعض لا يعرفون أمريكا كان العمانيون يعانقون بسفائنهم مرافىء نيويورك، وكان سلاطين عمان يتبادلون معها السفراء، ويهدون الرئيس الثامن لأمريكا “مارتن فان بيورين الخيول والسيوف والقرنفل.
ويوم كانت أوروبا تبدو بعيدة عن البعض كانت عواصم القارة العجوز تقيم مع عمان السفارات، وتلون الأفق المسقطي بأعلامها كدول صديقة.
وكانت أوروبا توفد المبعوثين تلو المبعوثين إلى قصور “العلم والحصن والشهباء والحزم وجبرين والمتوني والواتورو وبيت العجائب” ومعهم رسائل من الرايخ الألماني وبلاط فرساي والبوربون وباكنجهام.
وزرت نيويورك في أكتوبر عام 1985 وكان يسبقني إلى المكان كل هذا المجد الذي عمدته الأزمنة، وهذا الحضور الذي يليق بحوار الإمبراطوريات.
وحين سرحت النظر من شرفة مبنى البعثة الدبلوماسية العمانية الى بياض الماء الذي لونه الخريف استعدت بياض عمائم عمان وزنجبار وبردة سعيد بن سلطان ودجلة أحمد بن النعمان أول سفير عربي يرسله سلطان عماني لقارة العالم الجديد.
وكان المغفور له السفير سعود العنسي يتربع على كرسي البعثة الدبلوماسية العمانية يوم دخلت مبنى البعثة، ووجدته يمد وباقتدار زمن سلفه ابن النعمان.
وكانت الراية العمانية على البعثة هي ذات الراية على سارية السفينة سلطانة التي رست في أبريل عام 1840م وإن اختلفت الألوان، وأشرعتها كانت أطول من شعلة تمثال الحرية الذي انتصب في نفس نقطة الرسو بخليج نيويورك بعد قرابة نصف قرن من رسو سلطانة.
وبدت بنايات نيويورك شامخة ، ومبنى “الإمبايرستيت” القادم من ثلاثينيات القرن العشرين والمتلألىء في مئات الأعمال الهوليودية يتثاءب أمام عيني وهو يتوسد الغيم كأعلى قمة علمت الدنيا التطاول في البنيان.
وأكاد ألمس بيدي الأدوار العلوية لمبنيي مركز التجارة العالمي قبل أن يفجرهما بن لادن ويستعجل بتفجيرهما حجج ومسوغات ضرب “تورا بورا” ومسلة حمورابي وإغماد سيف العرب وخلع عمامة الطوارق وإضافة الربيع العربي كفصل خامس لفصول السنة.
وكان مبنى الأمم المتحدة بتفاصيله على مستوى نظري، وأكاد أتحسس أنفاس السكرتير العام خافيير بيريز ديكويلار وهو يتابع “سيركا” عالميا وجنونا عربيا.
لم يكن يعنيني المبنى الاممي الذي دخلته، فقد مللت تفاصيل تفاصيله قبل أن أتجول في مرافقه، وضجرت من جلوسي القصير في كراسي الوفود بقاعة مجلس الأمن الذي كثيرا ما حمل إليها قومي عويل الضعفاء.
وتزامن دخولي لقاعة مجلس الأمن بدء مرافعة وزير الخارجية التونسي الباجي قائد السبسي رئيس تونس الحالي عن العدوان الإسرائيلي على منطقة حمام الشط حين أرادت إسرائيل اقتلاع القيادة الفلسطينية المهجرة من لبنان.
كانت المرافعة التونسية حزينة بما يليق بالشهداء الذين سقطوا في غارة “الساق الخشبية” كما أطلقت عليها تل أبيب.
وكان النواح العربي هو ذاته منذ عام 1947 وبنفس حدة النبرة منذ أن دخل الصهاينة محراب الأقصى وإلى أن “أخرجهم” مرزوق الغانم من آخر تجمع برلماني في سانت بطرسبورغ.
وبدلا من أن يفد قومي إلى هذا المنبر الأممي ليقرأو صفحات من فجر الإسلام ، وضحى الحضارة العربية ، وظُهْر الإنجاز ، وعصر الفكر ، ومساء القصائد ، يحجون إلى المكان في سبتمبر من كل عام ليضاعفوا ذنوبهم في أكبر حائط مبكى أممي يتنابزون فيه بالألقاب، ويلقون فيه التهم على بعضهم البعض ، ويثبتون فيه تحولهم لأمة صوتية ، ويتباكون فيه على ضياع فلسطين ، ويطلبون من الأمم المتحدة التي باعت فلسطين لأن تعيد النظر في البيع.
ومع كل انعقاد أممي يتسابق قومي لحجز مواعيد إلقاء الكلمات ليبثوا حائط المبكى شكاوى لن تصل ، وإن وصلت لن تُسْمَعْ ، وإن سُمعت لن تُحل.
ولأن الأمر كذلك فقد أمضيت سويعات جلوسي في مجلس الأمن لقراءة ألوان وخطوط جدارية النرويجي بير كروغ التي ترمز للسلام والوئام والتي قدمتها النرويج إلى الأمم المتحدة لتزين بها قاعة المجلس وتلطف بها أجواء اقتسام العالم لدولنا ونواحنا أزاء الإقتسام.
كانت زخارف الجدارية أجمل من زخرف القول ، فتركت ما يقوله مجلس الأمن وانشغلت لما تقوله السجادة من دلالات حضارية.
لقد بدا عرب اليوم أصغر من عرب الأمس بكثير ، ولذلك جاءوا هنا كالصغار يتباكون بعد أن كانت الأمم تجهش لبكائهم.
وجاء العمانيون إلى خليج نيويورك والبيت الأبيض قبل قرن ونصف القرن ليحددوا خطوط الطول والعرض بالأشرعة والرماح وصليل المشرفيات وصهيل العتاق النجيبات ، وليتباحثوا بندية مع سادة البيت الأبيض في أوجاع العالم ويتبادلوا الهدايا ، ولذلك تتجاهل واشنطن ما يقوله الصغار ، بينما تظهر الإجلال والإكبار لهدايا سلاطين عمان من السيوف.
وتتباهى حيطان مبنى عمدة نيويورك بلوحة زيتية لأول سفير عربي من عمان.
والوقوف أمام اللوحة كالوقوف أمام الجداربة تتيح استرجاع انفعال الرسام وتوتر الريشة واشتعال الألوان ، فقد حشد الرسام الأمريكي كل تقنياته فيها لا ليخلد أحمد بن النعمان ، بل ليخلد عمان الإمبراطورية الأكبر في الشرق العربي كما يمثلها هذا السفير.
وحين اختار عمدة نيويورك هذه الرسمة بالتحديد بين ملايين من عبروا للعالم الجديد ، فقد اختار صورة دولة تليق بنيويورك بلد تمثال الحرية وعاصمة الحراك السياسي العالمي.
ولعل المغترب العربي الذي وقف يوما أمام تمثال “ليبرتي” مخاطبا إياه : متى تولي وجهك صوب الشرق؟ فان أمريكا كلها وقبل أن تهديها الجمهورية الفرنسية الثالثة هذا التمثال في احتفال امريكا بمئوية استقلالها قد ولت وجهها صوب الشرق الذي تمثله عمان .
وهذه اللوحة العمانية التي تسطع في حيطان مبنى العمدة تعود لما قبل التمثال بكثير ، إذ أن السفينة سلطانة عانقت مرافيء العالم الجديد قبل ان يرفع التمثال الفرنسي شعلة الحرية ، وترجل السفير العماني احمد بن النعمان الكعبي من السفينة سلطانة ومعه كبرياء امبراطورية عربية وشموخ عرب يشعشعون عبر قارتين أمجادا وسلاطين ، ويعطرون افريقيا مآذن ومنارات ، ويتواصلون بندية مع العواصم في الجهات الأربع.
لقد فجر بن لادن البرجين وتنفست نيويورك كل الغبار ومعه الحقد على العرب والإسلام.
وهبطت خيول عمان على الأرض الأمريكية وغبار حوافرها لا يزال زعفران المكان .
—————-
هامبورج في 22 أكتوبر 2017.