يكتبه: آمنة بنت محمد البلوشية|
يعد مسلسل “شارع الأعشى” من الأعمال الدرامية التي تجاوزت كونها مجرد قصة تُروى على الشاشة، لتصبح مشروعا ثقافيا وسياحيا يعيد إحياء ذاكرة المكان، ويبرز جوانب غنية من التراث السعودي الأصيل. منذ عرضه، أسهم المسلسل في تسليط الضوء على تفاصيل الحياة في الحارات القديمة، حيث تفاعلت الشخصيات مع أجواء البيوت التقليدية، والأزقة الضيقة، والأسطح التي كانت يوما ما أماكن للتوتصل الاجتماعي، وهو ما جعل المشاهد يشعر وكأنه يسير في أروقة الزمن الجميل، مستكشفا تاريخا لا يزال حاضرا في وجدان الكثيرين.
نجاح المسلسل لم يقتصر على الجانب الفني فحسب، بل امتد ليشكل مصدر إلهام لقطاعات متعددة، وفي مقدمتها السياحة والثقافة. فمن خلال الحياة اليومية في الحارات القديمة، أصبح “شارع الأعشى” بمثابة نافذة تطل منها الأجيال الجديدة على ماضيهم، وتستكشف عبرها الطابع العمراني والثقافي الذي ميز تلك الحقبة. هذا التفاعل الوجداني بين المشاهدين والأماكن المصورة في العمل أوجد رغبة ملحة لدى الكثيرين في زيارة هذه الحارة، ليس فقط من داخل المملكة، بل حتى من الدول المجاورة، حيث باتت فكرة استكشاف هذه المواقع التراثية واقعا يمكن استثماره وتعزيزه عبر مشاريع سياحية مدروسة.
يتجلى تأثير المسلسل أيضا في إبراز أهمية استثمار الحارات القديمة وتحويلها إلى وجهات سياحية قادرة على استقطاب الزوار من مختلف أنحاء العالم، فهذه الأماكن، بما تحمله من أصالة، توفر تجربة فريدة تجمع بين الماضي والحاضر، وتقدم نموذجا مختلفا عن السياحة التقليدية. فكما شهدت بعض الدول نجاح مشاريع مستوحاة من أعمال درامية، فإن “شارع الأعشى” يحمل في طياته مقومات تؤهله ليكون حجر الأساس لمشروع ثقافي وسياحي متكامل. يمكن تصور تطوير منطقة تعكس روح الحارة القديمة، تتضمن مقاهي ومكتبات ومحلات للحرفيين والأسر المنتجة، بحيث تصبح هذه الحارة ملتقى ثقافيا حياً، حيث يمكن للزوار الجلوس فوق الأسطح في أجواء تعبق بالتاريخ، تمامًا كما كان الحال في زمن المسلسل.
ولم يكن تأثير “شارع الأعشى” محصورا بالسعودية وحدها، بل امتد إلى دول الخليج المجاورة، مثل سلطنة عُمان والإمارات والكويت والبحرين وقطر، حيث وجد المشاهدون في المسلسل فرصة للعودة إلى تفاصيل كانت يوما جزءا من ثقافتهم اليومية، وشكل لديهم دافعا لرؤية هذه الأماكن على أرض الواقع. هذا الاهتمام المتزايد يمكن أن يتحول إلى عامل جذب سياحي يُسهم في تعزيز الروابط الثقافية بين شعوب المنطقة، ويخلق فرصا جديدة للسياحة الإقليمية التي تحتفي بالموروث الخليجي المشترك.
إن إبراز هذه الجوانب الثقافية والتاريخية يسهم في دعم الاقتصاد المحلي، سواء من خلال تحفيز الحرفيين لإعادة إحياء الصناعات التقليدية، أو عبر استحداث أنشطة سياحية تعتمد على تقديم تجربة معيشية تفاعلية تعكس أصالة المكان. إضافة إلى ذلك، فإن النجاح الكبير الذي حققه المسلسل يمكن أن يكون دافعا لتوسيع نطاق الإنتاجات الدرامية التي تسلط الضوء على التراث السعودي والخليجي، مما يفتح المجال أمام المزيد من الأعمال التي تحاكي هذا النمط، وتستثمر في الحكايات والمواقع التي تشكل جزءا من الذاكرة الجماعية.
لقد كان مسلسل “شارع الأعشى” نموذجا لفكرة مبتكرة تجمع بين الإنتاج الضخم والبنية التحتية القوية، حيث تم استثمار العائد المادي والمعنوي لــ 30 حلقة لتسليط الضوء على مقومات ثقافية وسياحية تتميز بتاريخها وحضارتها. هذا المسلسل لم يكن فقط مشروعا دراميا، بل دعوة لتسويق رؤية جديدة تبرز الهوية السعودية الأصيلة التي لا تقتصرعلى الحداثة، بل تضم في طياتها جذورا عميقة ومقومات ثقافية تستحق أن تُستثمر وتُستكشف من جديد.
إن “شارع الأعشى” أصبح ليس فقط مشروعا ثقافيا يروي قصة الماضي، بل جسرا يعيدنا إلى جذورنا الثقافية، حيث يحيي فينا شغف البحث عن ماضينا ويُحفزنا للاستثمار في حاضرنا، ليصبح المكان ليس فقط إطارا للذكرى، بل نقطة انطلاق لثقافة وسياحة تروي قصص الزمن الجميل لجيل جديد، وتربط الأجيال بموروثهم المشترك.
في ظل هذا الاهتمام المتزايد، يبدو واضحا أن “شارع الأعشى” لم يكن مجرد مسلسل عابر، بل مشروع ثقافي متكامل يعيد رسم ملامح السياحة التراثية، ويدعو إلى إعادة استكشاف الحارات القديمة برؤية جديدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. تحويل هذا الزخم إلى مبادرات فعلية يمكن أن يجعل من هذه الحارة نموذجا سياحيا ناجحا، يثري المشهد الثقافي، ويجذب الزوار من داخل المملكة وخارجها، ليصبح “شارع الأعشى” ليس فقط عنوانا لمسلسل ناجح، بل محطة دائمة في ذاكرة السياحة والتراث السعودي .
ayaamq222@gmail.com