ليكون عنصرا مكملا للاقتصاد الوطني.. مختصون: تاريخ عُمان يُعزز مفهوم “اقتصادات الثقافة”

الأغبري: الموروث المادي وغير المادي يمكن استثمارها سياحيًّا وجذب الاستثمار 

ابراهيم بني عرابة: الموروث الثقافي محرك لإيجاد الفرص الوظيفية والتشغيل المباشر وغير المباشر 

د. إيهاب حمدي: الاقتصاد البنفسجي يعتبر جزءا أساسيًّا من النمو الاقتصادي للدول 

اليقظان العبري: الحداثة وعراقة الثقافة العمانية شهادة واقعية يتعرف من خلالها السائح

مسقط – العُمانية|

 أجمع عدد من المختصين على أهمية العمل الذي يعزز مفهوم “اقتصادات الثقافة” كونه عنصرا مكمّلا للاقتصاد الوطني في سلطنة عُمان، فاقتصادات الثقافة على وجه الخصوص تعمل على دراسة الأبعاد الاقتصادية الخاصة بالأنشطة الثقافية والفنية، مع تحليل كيفية تأثيرها على النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وتهدف إلى فهم كيفية تأثير الثقافة ذاتها على الاقتصاد والعكس، وكيف يمكن للثقافة أن تسهم في التنمية الاقتصادية.

والراصد للعمل الثقافي يجد أن اقتصادات الثقافة تشكل عنصرًا مهمًّا في العصر الحديث، كون الأنشطة الثقافية جزءًا مهمًّا من الاقتصاد العالمي وتسهم بشكل كبير في تطوير الاقتصادات المحلية والوطنية، كما تعد سلطنة عُمان نموذجًا نوعيًّا ذا شمولية في التنوع الثقافي والتراثي المادي وغير المادي نظرا لتفرد مواقعها العالمية ومفرداتها التراثية مرورًا بالأدب والموسيقى والفنون والسينما والمسرح والتصميم والألعاب بأشكالها التقليدية والإلكترونية والمهرجانات وغيرها.
استثمار الموروث 

وعن كيفية توظيف التراث الثقافي والفني والأدبي في الترويج السياحي وتنمية الاقتصاد المحلي على سبيل المثال لا الحصر، يقول المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري عضو مجلس الدولة: إن الموروث المادي وغير المادي من حصون وقلاع وأبراج وأسوار وقلاع وأفلاج وحارات وعادات وتقاليد وقيم يمكن استثمارها سياحيًّا وجالبة للاستثمار وداعمة لتنوع الدخل الوطني العُماني، وإذا أردنا الحديث عن الحارات العُمانية على وجه الخصوص وما تحتويه من نقوش وزخارف من إبداع ريشة وعقل ويد الفنان العُماني فإنها تجذب السائح للقيام بدراسة علمية معرفية، فالسياحة أنواع ومنها السياحة العلمية، ويمكن تحويل عدد من الحارات بعد تهيئتها لتكون نزلا. فالسائح الغربي يريد شيئا مغايرا عما اعتاد عليه من ناطحات سحاب وعمارات شاهقة وهو في شوق لحياة بسيطة خالية من التعقيدات وهذا يعني إمكانية استخدامها لجذب السياح دعما للاقتصاد.

ويؤكد في هذا السياق: يجب أن نشير إلى أن العادات والتقاليد جاذبة للسياح من حيث احترام الآخر وفن التعامل الراقي وهذه المواريث المعنوية غير المادية تمثل صناعة عُمانية يمكن الاستفادة منها باعتبارها القوة الناعمة المؤثرة، فعلى سبيل المثل لا الحصر فقد تمكنت إسبانيا من استثمار حاراتها الموروثة عن المسلمين أيام الأندلس وصارت مقصدا للسياح ولها دور في تنويع مصادر الدخل، فيمكن استغلال هذه الحارات من أجل إنتاج مسلسلات ودراما تعكس حياة الماضي وتبين تلك المآثر.

تنويع اقتصادي 

ويشير إبراهيم بن سيف بن سالم بني عرابة المدير العام المساعد للفنون بوزارة الثقافة والرياضة والشباب إلى الكيفية التي تجعل الإرث الثقافي محركًا للتنويع الاقتصادي في سلطنة عُمان في قوله: سلطنة عُمان من الدول الغنية بالموروث الثقافي الذي يمكن أن يكون عنصرا مهما لتحريك العديد من القطاعات التنموية كالسياحة والمعارف المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية وتسهم بشكل كبير في الاقتصادات المجتمعية التي تقوم عليها الأسر المنتجة، كما أن لها دورا كبيرا في إيجاد صناعات مطورة مبنية على المعارف التقليدية والثقافية، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي تقوم به الموروثات المكانية كالمدن والقرى القديمة التي أصبحت محركًا قويًّا للسياحة والضيافة في العديد من الدول ومن بينها سلطنة عُمان.

ويضيف: لذلك، فإن الموروث الثقافي بشكل عام لا يقتصر دوره على التنويع الاقتصادي فحسب، بل هو محرك لإيجاد الفرص الوظيفية والتشغيل المباشر وغير المباشر لفئات عديدة من المجتمع، بالإضافة إلى كونه يسهم بشكل كبير في إيجاد منتجات اقتصادية تحقق عوائد مالية من خلال السياحة أو تصدير المنتجات الثقافية المختلفة، وبالتالي إبقاء حصة كبيرة من المال الموجه لبعض السلع المنظورة وغير المنظورة على اعتبار أن الموروث الثقافي بكل عام يعد منتجًا وصناعة إبداعية ترفد التنويع الاقتصادي في العديد من الدول.

كما يتطرق بني عرابة إلى خطط وزارة الثقافة والرياضة والشباب للعمل على مثل هذه المشاريع الثقافية والفنية النوعية مستقبلًا ويؤكد على أن الوزارة لديها رؤية شاملة فيما يتعلق بالتصنيع الثقافي بشكل عام، وخاصة الصناعات الثقافية الإبداعية التي تمارسها بعض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

وبالنسبة للمجالات الفنية، فإنها المحرك الأهم في تلك الصناعات، حيث يتمثل دورها في رفع الوعي لدى المهتمين بالقطاع الفني خاصة مجالات الموسيقى والسينما والمسرح والفنون التشكيلية وفنون التصميم المختلفة والفنون الرقمية والتصوير الضوئي بالإضافة إلى الفنون النوعية الأخرى. وتسعى الوزارة لتحفيز المواهب وتنمية مهاراتهم الإبداعية وتمكينهم من المعرفة في ريادة المشروعات بالتعاون والتنسيق مع مختلف الجهات وخاصة الهيئة العامة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي أسهمت بشكل واضح في ظهور العديد من المؤسسات التي تعمل في القطاع الفني والإبداعي بالتنسيق مع الجهات المختلفة لتعزيز الترفيه الثقافي والسياحي الثقافي المبني على المهرجانات النوعية والفعاليات ذات الأثر المستدام.

رؤية علمية 

ويتطرق الدكتور إيهاب حمدي من كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس إلى الرؤية العلمية في شأن اقتصادات الثقافة والأدوات التي من الممكن أن تحوّل الثقافة لتكون محركا اقتصاديا يدر عائدا ماديا لسلطنة عُمان.

ويقول: تعد سلطنة عُمان من الدول التي تولي اهتماما كبيرا بالصناعات الإبداعية والثقافية، وتسعى لتعزيزها ضمن اقتصادها الوطني.

ويضيف: منذ إطلاق مفهوم “الاقتصاد الإبداعي” في سلطنة عُمان الذي يشمل الصناعات الإبداعية والثقافية، تطورت فعاليات الفنون والتصميم والموسيقى والأدب والإعلام الجديد والترفيه والتراث والسياحة الثقافية، وتسعى سلطنة عُمان إلى تعزيز هذه الصناعات عن طريق تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية والمهرجانات الفنية ومعارض الكتاب، وتطوير الهيكل الأساسي للصناعات الإبداعية والثقافية، ومن خلال هذه الجهود، تهدف السلطنة إلى تحقيق النمو الاقتصادي المستدام وتنمية الاقتصاد الوطني.

استغلال الإرث الثقافي 

ويتابع: هناك أمثلة كثيرة على طرق استغلال الإرث الثقافي والتراث الفني والأدبي لتعزيز القوة الاقتصادية، فهذه جميعها عناصر للقوة الناعمة للدولة، فالهند مثلا تستخدم ثقافتها العريقة لتعزيز السياحة الثقافية وتحقيق العوائد الاقتصادية، وتروّج لمواقع تاج محل وأجرا الهندية لاجتذاب السائحين واستكشاف التراث الثقافي والتاريخي للهند، كذلك إيطاليا تستخدم مواقع مثل الكولوسيوم وبرج بيزا وفينيسيا وروما ومواقع أخرى. ولدينا في العالم العربي مصر عبر التراث الفرعوني والإسلامي والمغرب بالفنون التقليدية المختلفة، مثل الفن الإسلامي والمنسوجات التقليدية والموسيقى والرقص الشعبي، وفرنسا أيضا يزورها نحو 85 مليون سائح كل عام، ويعود السياح الأجانب بإيرادات تصل إلى 60 مليار يورو سنويًّا، خصوصًا لمواقع مثل برج إيفل ومتحف اللوفر وقصر فرساي ومواقع أخرى، وبالمثل بالنسبة للاقتصاد الإسباني؛ حيث يزور نحو 83 مليون سائح كل عام برشلونة وقصر الحمراء في غرناطة والكاتدرائية في سيفيلا، كل ذلك دعم للصناعات الإبداعية cultural industries.

ويبيّن: لو أردنا التفصيل في شأن اقتصادات الثقافة، هنا نتطرق بشكل سريع إلى ما يسمى بالاقتصاد البنفسجي (Purple Economy)، ونعني به الاقتصاد الذي يركز على الصناعات الإبداعية والثقافية والفنية، ويعتبرها جزءا أساسيًّا من النمو الاقتصادي لأي دولة في العالم، ويرمز مصطلح “البنفسجي” إلى الإبداع والفنون، وتشمل الصناعات الإبداعية الفنون الجميلة، والأفلام، والموسيقى، والأدب، والتصميم، والموضة، والتلفزيون، والإعلام الجديد، والألعاب الإلكترونية، والترفيه، هذه الصناعات ليست فقط مهمة للبعد الاقتصادي، بل تسهم بشكل كبير في تحسين الصورة الذهنية للمجتمع وتعزيز التفاعل الاجتماعي والثقافي، وتنمّي حس الانتماء الوطني لدى الشعوب.

عراقة متفردة 

ويتحدث اليقظان بن سعيد العبري، صاحب تجربة نوعية في مجال اقتصادات الثقافة، ويملك مشروعا تراثيًّا ثقافيًّا تحت مسمى (بيت السراج) بولاية الحمراء عن الآليات التي تجعل الإرث الثقافي محركًا لتنمية الاقتصاد المحلي في سلطنة عُمان فيقول: نحن في دولة ذات عراقة متفردة تتميز بتاريخ عريق ممتد لمئات السنين باختلاف سكانها ومناطقهم المتعددة، الأمر الذي يجعل من التاريخ والثقافة طريقًا للإبداع والابتكار، وهذا ما عزز مفردات ذلك التاريخ من قلاع وحصون ومنازل قديمة تاريخية؛ بصفتها جزءا من الاقتصاد الوطني العُماني بعد استغلالها بطرق سياحية جميلة.

ويضيف: لقد عمل العارفون بهذا التاريخ ومقتضياته على تحول المنازل القديمة إلى نزل سياحية، وفنادق، ومقاهٍ، ومعارض تواكب العصر الحالي، بها لمسة من ماضي عُمان، خاصة إذا جمعت بين الحداثة وعراقة الثقافة العمانية، فهذه شهادة واقعية يتعرف من خلالها السائح على مكوناتها وتاريخها الراسخ عبر الزمان.

ويذكر العبري كيف أصبح مشروعه ضمن مفهوم اقتصادات الثقافة: في بلادنا مسفاة العبريين بولاية الحمراء بدأنا نحن أهل القرية باستثمار المنازل القديمة وتحويلها لخدمات تساعد السائح على الإقامة في المنطقة، والتجول المريح، وتوفير كل الخدمات اللازمة مثل المرافق، والفنادق، والمطاعم، والمقاهي المتخصصة في القهوة على سبيل المثال؛ الأمر الذي جعل القرية تواكب الجديد، مع احتفاظها بالماضي، ما أدى إلى تنشيط الحركة السياحية طوال العام، ولمسنا إعجابا بالمنتج الثقافي العُماني من الكثير من الزوار والسياح من مختلف المناطق والدول، وهذا يدعونا نحن الشباب لاستغلال الإرث العظيم لهذا البلد ليكون ذا عائد مادي حقيقي، مرورا بالتعريف بالثقافة العُمانية الأصيلة.

تشجيع 

ويوضح أنه لمس التشجيع الحقيقي من قبل الحكومة التي تسعى للأخذ بيد المجتهد الراغب في تحقيق تطلعاته، وهذا ما عزز استمرارية مشروعه الاستثماري المتمثل في بيت قديم بشراكة مع الأهل والأصحاب المقربين، حيث قاموا بترميمه عن طريق شركة أهلية محلية وطرحه للاستثمار على مجموعة من الشباب، وأوجدنا فيه كل ما يمكن أن يأخذه الزائر ليكون ذا تذكار لديه، كالهدايا وبعض المنتجات الطبيعية كماء الورد وزيت الزيتون وغيرها.

ويختتم العبري قوله: أدخلنا فكرة أخرى ضمن أقسام المنزل التراثي لها علاقة وثيقة بالإبداع، تتمثل في التجوال الافتراضي (VR)، فمن خلاله يستطيع السائح التعرف على أجزاء من مسفاة العبريين وطرقاتها وأهم المواقع فيها مدعما بعرض مقطع فيديو (360) درجة من إنتاجنا وإخراجنا، وتوضيح الجانب الثقافي والماضي العريق والعادات والتقاليد المتعارف عليها في المسفاة، مرورا بشرح الجوانب العلمية الخاصة بنظام السقي قديما وفكر الأجداد في هذا النظام الواسع عن طريق النجوم وغيرها من الأشياء العلمية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*