بقلم: أ. جوخة الشماخية
كل منا ينظر إلى الجمال من زاوية مختلفة، لذا تختلف وجهة نظرنا في جماليات الأمكنة التي نحلّ فيها، ترتاح نفسي أكثر في القرى والأرياف، التي لم تنل منها المدنيّة كثيراً، كبلدة (البليّدَة)، إحدى قرى ولاية عبري، لغويا اسمها تصغير لكلمة (بلدة)؛ نظرا لصغر مساحتها.
طريق الوصول إليها يتميز بسككه ومداخله الضيقة، لكنك لن تشعر بالملل؛ لأن المزارع الخضراء تحيط بك من كلا الجانبين، فقط كن حذرا أثناء القيادة. زرت (البليّدَة) صباح أحد الأيام، حيث كنت في مهمة رافقتني فيها ابنتي، انعطفنا في مسار خاطئ، مما اضطرنا أن نستعين بأحد المارة، الذي أرشدنا إلى المسار الصحيح، فسرنا حتى التقينا بإحدى الأخوات التي استقبلتنا بكل ترحاب، سارت أمامنا بسيارتها، حتى وصلنا إلى وجهتنا.
بعد أن انهيت المهمة، أخذتنا أختنا المُرَافقة في جولة، (البليّدَة) بدت لي واحة خضراء، محاطة بالجبال، أكثر ما شدَّ انتباهي المدرجات الزراعية المُصاغة بإبداع، ومزارعها التي كانت في مستوى منخفض من الأرض، مقارنة ببيوتها التي غلب عليها الارتفاع، لدرجة أن بعضها يكاد يلتصق بالجبال. هذه القرية الوادعة ترفض أن تُضحي بماضيها، سكانها متمسكون بعاداتهم وتقاليدهم، يزرعون، ويربون الماشية، نساؤها يمارسن الحرف التقليدية المختلفة.
بيوت الطين القديمة في (البليّدَة) تعانق بيوت الإسمنت الحديثة، تماما كنخيلها الذي يعانق جبالها، حتى بيوت الطين التي آلت بعض أجزائها إلى السقوط، لا تزال أجزاء كبيرة منها راسخة بثبات، وكأنها تتحدى الزمن.
أهل (البليَدة) يملكون ملامح ريفية سمحة، هي الملامح التي تجذبني في البشر، أناس على سجيتهم، ليسوا بحاجة إلى بهرجة وتصنّع، كما يفعل سكان المدن عادة، ربما ملامح المكان ألقت بضلالها على طبيعة حياتهم، فصبغتهم بصبغة الطيبة والبساطة، هذا ما لاحظته على الأسرة التي استضافتني، والتي كانت تتكون من أم كبيرة في السن وأولادها وأحفادها، لم أشعر بغربة كوني أول مرة التقيهم، بالعكس شعرت معهم بكثير من الألفة، وكأنني أعرفهم منذ فترة طويلة، استقبلتني الوالدة (نبيهة) بالأحضان، لن أنسى وجهها البشوش، وابتسامتها التي لم تفارقها طيلة بقائي في بيتها، أحضرت هي وبناتها القهوة وصنوفا من (الفواله)، كعادة كرم أهل عبري جميعا.
بعد تناول القهوة، دعتني الأخوات إلى الصعود لأعلى بيت الإسمنت، الذي كان قيد البناء، هو ملحق ببيت الطين، ومتناغم معه، شاهدت القرية من الأعلى، سحرني المنظر، تنفست بعمق، قررت أن أعيش اللحظة، وأستمتع بما أرى، فتركت أمر التقاط التصوير لابنتي، قبيل الظهر ودعنا (البليّدة)، على وعد بزيارة أخرى.