مسقط -العمانية | لا يمكن أن ينظر زائر إلى جمال وروعة قصر جبرين بمعزل عن ميراثه الفكري، فقد كان في يوم من الأيام جامعة يتوافد عليها طلاب العلم في عمان.. ومنه تخرج الكثيرون من علماء عمان الذين سارت بذكرهم الركبان. وهو بهذا المعنى نموذج للحصون والقلاع العمانية التي يخرج دورها من كونها مكانا محصنا ضد الأعداء إلى كونها مكانا لإدارة الدولة سياسيا ودينيا وعلميا وثقافيا. ويحضر الحصن كثيرا في نصوص التراث العماني التاريخية والفقهية والأدبية. وأفرد له الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي في كتابه “تحفة الأعيان” فصلا خاصا. وتناول الفقهاء كما تقول الموسوعة العمانية في جواباتهم حكم أمواله وما إذا كانت تجوز المكاتبة فيها لكونها مجهولة الأرباب.
كما يحضر الحصن في كتب الرحالة والباحثين الأجانب، وقدم يوجينيو كالديري دراسة علمية حوله نشرت مترجمة في مجلة الدراسات العمانية تحت عنوان “تحفة رائعة من العمارة العمانية في القرن السابع عشر: قصر الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي في جبرين” وقام إيروس بلديسيرا بتكليف من وزارة التراث والثقافة بإصدار كتاب يحمل عنوان ” قصر جبرين وكتاباته”.
وهذا الحضور ليس راجعا للمبنى على جماله وأهميته في المعمار العماني ولكنه عائد أيضا إلى الحالة الثقافية
والحضارية التي شكلها هذا الحصن الجميل في عهد الدولة اليعربية، وإلى ارتباطه بالشخصيات بدءا بالإمام بلعرب بن سلطان اليعربي الذي بنى الحصن/ القصر.
أراد بلعرب أن يكون الحصن مقرا لسكنه فاستأذن والده الامام باختيار الأرض لذلك المقام. وقد قام وهو العارف
بطبيعة الظروف المناخية والجغرافية للبلاد باختيار مخالف لإقامته بعيدا عن مركز الامامة ووالده (نزوى في ذلك الوقت) و كان يمتلك حدس المستقبل لتلك البقعة النائية لأن تصبح محط انظار العمانيين حتى يومنا.
يقول السالمي في كتابه عن الحصن: “وكان من أعاجيب الزمان، وقد بناه من صلب ماله على ما قيل لأن الأموال
قد كثرت في أيامه، وأيام والده قبله حتى و كادت أن تفيض البيضاء والصفراء من أيدي الناس”.
ويضيف: “حتى قيل إن حصن جبرين لا يستطيع أحد أن يصفه بجميع ما فيه ولو فكر فيه شهرا كاملا بإمعان النظر التام، وهو قصر عال يجري في بطنه نهر جار وله حيطان شاهقة، ومن أعاجيبه أنه لو دخل من غير أهله لم يقدر أن يبلغ أعلاه إلا بدليل من أهله”. ويرد في كتاب تحفة الأعيان للشيخ السالمي اسم جبرين أحيانا مكتوبا “يبرين” بالياء مكان الجيم وهي فيما يبدو لهجة من اللهجات.
ويبدو القصر أنه مبني في مرحلة السلم والاستقرار نظرا للاشتغال على الجوانب الجمالية اكثر من أي جوانب أخرى قد تبدو استحكامية وعسكرية. ولذلك يسود بين العمانيين تسميته بقصر جبرين لا بحصن جبرين. لكن كل ذلك لم يمنع أن يكون الحصن محكم التحصينات رغم الجمال ورغم أنه قصر. فهو يحتوي على الكثير من المرامي والمدافع وبه سقاطات للزيت والدبس المغلي.
والحصن مبني بالحجارة والصاروج، وقد ساعد ذلك على بقائه. ومدخله الرئيسي يقع في جهته الشرقية، ويحتوي على باب كبير عرضه 235سم، نقش عليه زخارف نباتية وزينت بمسامير مخروطية، ويعلو الباب عقد زورقي الشكل، تعلوه فتحة تهوية وإضاءة لها عقد زورقي، يمكن من خلالها إسقاط الزيت والماء الحارين على المهاجمين. ويرتبط مدخل الحصن الرئيسي من جهته الشرقية بسور عريض، سمكه 63 سم، يمتد من البرج الجنوبي الشرقي حتى الزاوية الشمالية الشرقية من الحصن ويحتوي المدخل على مدفعين لهما قاعدتان خشبيتان.
ويوصل الباب الكبير إلى ممر كبير مسقوف “صباح” طوله 131سم وله 4 عقود زورقية وعقدان نصف دائريين كما تذكر الموسوعة العمانية التي أفردت مدخلا خاصا للحصن في الموسوعة.
وجانبه المجاور للباب مسقوف بعارضات خشبية، أما جانبه الأبعد فيتخذ هيئة قبو نصف برميلي. ويحتوي “الصباح” على زخارف جصية مربعة ومستطيلة، وعقد زورقي الشكل يحيط به غطار مستطيل مزخرف، وعمودان بهما اوتاد.
وحفرت على جدان أحد العمودين كتابات ورسومات، وللصباح مخرجان نحو الساحة يتجه الاول جنوبا ويتجه الآخر نحو القصر، وبه مقاعد عرضها بين 44 و55 سم ويوجد فوق المدخل غرفة صغيرة يصب منها الزيت والماء
الحاران على المهاجمين سقفت بخشب التيك المستورد.
وفي ساحة الحصن الداخلية غرفة للصلاة، لها بابان يعلوهما عقدان زورقيان، وعلى البابين عقد زورقي أسفله محراب صغير.
ومبنى الحصن الرئيسي مستطيل الشكل، وطوله 43م، وعرضه 22م، وارتفاع الفتحة السماوية التي على مدخله
14.83م. وكان يتكون من مبنيين منفصلين، ثم وصل بينهما مبنى ثالث. وأقسامه الثلاثة ذات طوابق ثلاثة، وتحتوي على غرف اجتماعات وقاعة محكمة وغرف معيشة ودهاليز للطعام ومطابخ ومخازن للتمور وسجن للرجال وأخر للنساء وغرف للحراس ومكتبة ومرابط للخيل ومخازن للبارود، وكلها متداخلة فيما بينها، تربطها درجات عديدة،
وممرات مسقوفة ومزخرفة، بعضها عليه تشكيلات نباتية وأخرى مكتوب عليها بخطوط هندسة مختلفة، ويوجد بالقسم الثالث جناح الإمام وغرف البنات وغرفة الشمس والقمر وغرفة النجوم ومسج ومدرسة، وفيه يوجد ضريح الإمام.
يحتوي الحصن على برجين دائريين: البرج الشمالي والغربي ، يتكون من ثلاثة طوابق، ويحتوي على مخازن وتمور وغرف للحرس، والبرج الجنوبي الشرقي يتكون من ثلاثة طوابق أيضا، ويحتوي على مخزن أسلحة وغرف للحرس وبه فتحات للمدفع والبرجان مسقوفان بأقبيلة نصف برميلية دون استعمال الخشب.
أما القصر من داخله فهو يمتلك خصائص هندسية وزخرفية فريدة بالنسبة للمعمار العماني والاسلامي فبهواه الرئيسيين ومداخله، وأقواسه وغرفه وقاعاته تنم عن وعي وإدراك فني راق. هذا الفضاء الذي يمتلكه القصر هو فضاء المتحف. كما أنه مدرسة للذين يرغبون في الاستفادة من علم التصميم الهندسي. فقاعات استقبال الامام والنجوى والشمس والقمر، قاعات استقبال كبار الضيوف «المقربين» اليه وذلك لقربها من غرف النوم.
أما الزخرفة والكتابة والنقوش فهي إضافة عن كونها مسألة جمالية فهي تحيي للمكان زمانه وحضوره وتضفي عليله خصوصية الذوق الرفيع وتكثر هذه الزخرفة بالقرب من الأماكن المحببة الى نفس الامام خصوصا القسم الثاني وبالقرب من قاعات نومه.
فالكتابات معظمها منقوشة على خشب الأبواب وأعلى الجدران في لوحات فوق الأبواب الداخلية والشبابيك الخارجية أو مرسومة بطلاء الألوان الرائعة على عارضات السقف. أما المواد المكتوبة عليها فهي الخشب المحفور والخشب المدموم وطلاء الجدران المدموم والجص المطبوخ والجص المنحوت.
يضم القصر في جزئيه خمسا وخمسين غرفة وقاعة، يرتفع القسم الأول على ثلاثة طوابق والثاني على خمسة. كما يضم القصر برجين مرتبطين به للحماية الخارجية. باختصار القصر مدينة مصغرة.. بحراسها وسجونها، ومدرستها وأميرها.
وفي عام 1976م قامت وزارة التراث القومي والثقافة بالبدء ني تنفيذ المرحلة الأولى لترميم القصر ثم أعقبتها الثانية والتي استمرت من عام 91 19- 1993م. حيث تمت اعادة الترميم والعناية الخاصة بالقصر الى سابق أيامه الأولى، مع المحافظة التامة والكاملة على مقوماته دون تغيير، بالاضافة الى الجهد الاستثنائي الذي بذلته الجهات الحكومية بعد الترميم بنقل المساكن الطينية لأهالي المنطقة المحيطة بالقصر الى مسافة بعيدة وذلك حفاظا على هذا المعلم الحضاري الهام.
واليوم يبدو قصر جبرين أحد الشواهد الحية على الحضارة العمانية واهتمامها بالمنجر الثقافي المتمثل في الفن المعمارين.