جريدة وجهات أول جريدة عمانية مختصه بالسفر و السياحة
توزر “تونس” – حمدان البادي|
في الطريق الواصل إلى توزر باتجاه الجنون التونسي كان أسعد البطحري وائل جسار يشكلان الخلفية الموسيقية لرفاق الرحلة، هذين اللونين الغنائيين اللذين لا يلتقيان، كنت أنصت إليهما وأنا في المقعد الخلفي من دون ان تتاح لي الفرصة حتى في اختيار أغنية على ذوقي ومزاجي في تلك اللحظة، لكن الوقت كان كفيلاً بأن يمنحني في تلك اللحظة الهدوء الداخلي لأتأمل المعالم التي تظهر في طريقنا.
كنت احتاج لأن اسمع محمد عبده وهو يصدح بأغنية عذبةٌ أنتِ كالطفولة/ كالأحلام/ كاللحنِ كالصباحِ الجديدِ. لعلها تكون فاتحة لحديثنا ونحن في طريقنا لزيارة مرتع ومربع أبو القاسم الشابي في مدينة توزر حيث عاش عمراً أطول من عمره، وقد ألهمته الصحراء وواحات النخيل ليكتب لنا “إرادة الحياة” لتكون كلماته عذبة كالطفولة والأحلام وورد الصباح. مع أن هناك أغاني كثيرة صدح بها كبار الفنانين من كلمات ابو القاسم الشابي كأغنية إرادة الحياة، ويستجيب القدر، إلى طغاة العالم للطيفة التونسية والراعي لفيروز واسكني يا جراح لـ “أمينة فاخت” وأبو بكر سالم، إلا إن أغنية أبو القاسم الشابي نفذت إلى ذاكرتي في هذه اللحظة وأريد أن أسمعها بصوت محمد عبده.
الصدفة وحدها قادتني للجنوب التونسي وتحديدا إلى محافظتي قفصة وتوزر برفقة الصديق الدكتور خالد العدوي صحفي بجريدة عُمان لزيارة عائلة صلاح بو كريمي صحفي في جريدة الصباح التونسية، وقد دبر لنا حضور عرس تونسي ضمن برنامج سياحي لم يكن مدرجا في أجندته الأعراس، لولا أننا نبحث عما لا يمكن ادراكه في دروبنا اليومية من عادت وتقاليد شعبية تتفق في معناها الشعوب وتختلف في تقديمها. حيث الفرح سيد اللحظة التي يتشارك فيها الصغير قبل الكبير وهم يشهدون ولادة حياة بين روحين أتلفتا ليتشاركوا بقية العمر. ما يشترك في هذه الأعراس لحظات الفرح التي ينتشي بها الحضور قبل المعاريس على إيقاع الأهازيج الشعبية التي تمنح ليلة حضورها في لحظة يراد لها ان تظل في الذاكرة.
وقد كان لنا ما أردنا، واضفنا تجربة اجتماعية إلى التجارب التي تزدحم بها ذاكرتنا من أقطار عدة، وإذا كنا نصل لمرحلة الغلو في الأعراس العمانية وما يأتي في سياق إقامتها، فإن لتونس أو في قفصة تحديدا للعرس والليالي تتشابه مع ليالي الأعراس في عُمان من حيث ليلة زهبة العرس، وليلة الحنا، والزفة وغيرها من اللحظات التي تؤدي إلى الفرح.
في هذه البقعة من الأرض كانت هنا حضارة قامت على انقاضها قفصه الحديثة وهي بين جبلين نبتا في واحات الصحراء لذا هما أثمن من الكثير من الجبال في تونس لاحتوائها بالفوسفات واحدة من الموارد الطبيعية التي تشكل موارد الدولة.
أراد لنا صلاح الدين بو كريمي أن نفطر بجانب الأحواض الرومانية التي تشكل جزءاً من تاريخ المدينة وحضارتها، ليسرد لنا قصة المكان والزمان على كوب من “القهوة الكحلي” والكروسان” وبرفقة صديقنا محمد رداوي ابن قفصه وكان حينها يستعد للسفر إلى جدة كمدرس لغة فرنسية، من مقهى يطل على الأحواض الرومانية يتم تغذيتها بالمياه الجوفية التي تتذبذب بين الخصب والجفاف ، ولم تسلم هذه المساحة من صراعات الحرب العالمية الثانية، لذا قال عنها الإدريسي: “مدينة قفصة مركز، والبلاد بها دائرة”، ولان قفصة وتوزر شهدتا اندماجا وانفصالا في سياق تاريخهم فقد انطلقنا لزيارة مدينة توزر حيث مرتع ومرابع أبو القاسم الشابي (1909-1935) وطفولته العذبة والأحلام وورد الصباح في مدينة توزر، المدينة التي ولد ومات فيها على تخوم الصحراء ملهمته لينحت كلمات في سجل الشعر العربي بالرغم من حياته القصيرة شاعر الشباب الحاضر في ذاكرتهم عبر الكلمة التي نثرها في فضاءات الحياة داعيا للحرية والحياة وقبل ذلك للحب.
” إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أن ينكسر”
توزر واحدة من المدن التونسية التي تفتح ذراعيها للسياح بمختلف مشاربهم وخاصة الأوربيين في الشتاء عبر مطارها الذي يستقبل رحلات مباشرة وفنادقها ذات التصنيف العالي ومزاراتها السياحية، حيث تتجسد تونس عبر الأزمان والشخصيات التي تركت أثرا في متحف دار شريط حيث تتجلى الحضارة الانسانية منذ بدء تكون الحياة، وما صاحب تلك الحياة من أدوات وأزياء وشخصيات وقد تم تجسيدها في متحف الفنون.
وصفها ابن شباط بالجنة:
“ زر توزر ان شئت رؤية جنة .. تجري بها من تحتك الانهار”،
حيث نقش هذا البيت الشعري على بوابة المدينة، على اعتبار إن ابن شباط عالم ومهندس ومؤرخ كان له الفضل في تنظيم المياه بحكمة في واحات توزر، لهذا اينما يممت وجهك ستجد الشعر يزين جدران المدينة وطرقاتها وأسواقها ومقاهيها حيث تبرز حكمة أبو الشابي وأشعاره في كل أنحاء المدينة:
هو الكون حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ.. ويحتقرُ الميْتَ مهما كبر
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ.. ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ
على تلة يحرسها نسرا من حديد، نحت وجه أبو القاسم الشابي يراقب واحات النخيل والسياح القادمين من مختلف بقاع الأرض، كان وقوفه على هذه الصخرة باعثاً للإلهام والحرية ويكتب أشعاره ويتأمل في قريته الساحرة بواحاتها الخضراء. وعلى جداريات صنعت من طوب، علقت عدد من أبياته الشعرية من قصيدة ” إرادة الحياة” لتكون من معلقات الشعر في تونس منها ما قال: أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ .. وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر.
وعلى جدارية أخرى زخرف البيت التالي :
واذا ما طمحت للحياة. فلا بد أن يستجيب القدر.
حال الوقت بيننا وبين رؤية شط الجريد أو ما تبقى منه حيث يقال أنها سبخة وسط الصحراء تتشكل فيها المياه وقامت عليها بعض الأحلام لتكون بحيرة اصطناعيّة يتم وصلها بالبحر بهدف وصل البحر بقلب الصحراء وهو المشروع الذي لم يتم، وكذلك حال الوقت بيننا وبين تجربة ركوب السحلية الحمراء في الطريق الواصل بين توزر وقفصة في جبال الثالجة بمدينة المتلوي والسحلية الحمراء هو قطار عتيق من عام 1910 كان يستخدم في استخراج الفوسفات من المتلوي.
ولأننا في عمق الجنوب التونسي حيت توزر وتمور دجلة النور أو كما تنتشر في لافتات المحلات التجارية باسم “دقلة نور” كانت وجهتنا المدينة القديمة حيث رشح لنا صلاح بوكريمي واحدا من أطيب المطاعم التي تقدم “الكسكسي بالحوت” وفي المطعم يمكن رؤية جزء من تفاصيل المدينة القديمة المبنية بالطوب والناس وحياتهم وأشعار أبو القاسم الشابي التي تشكل هوية لجدران أغلب المحلات التجارية.
