دار الأوبرا السلطانية.. عودة إلى زمن الفن الجميل

مسقط-العمانية- فانا | على مقربة من بحر عُمان الضاج بالحكايات والمحتفل دوما بموسيقى وأغاني البحارة العمانيين والعالميين القادمين إليه من كل مكان، تستكين واحدة من أهم وأحدث دور الأوبرا في العالم سواء من حيث النشاط والقدرة على حفظ وتيرة العمل المبني على خطط نحو المستقبل أو من حيث الإمكانيات التقنية الحديثة التي تمتلكها الدار، إنها دار الأوبرا السلطانية التي تقدم عروضا مبهرة وجاذبة ليس للجمهور المحلي فقط وإنما لجمهور دور الأوبرا إقليميا وعالميا.
استطاعت دار الأوبرا السلطانية وفي فترة وجيزة جدا أن تسجل لها حضورا لافتا بين أشهر دور الأوبرا في العالم لتؤكد للجميع أنها وجدت لتتطور وتنمو كسائر المؤسسات الثقافية الرائدة في العالم، وبهذا المعنى تكون الدار قد نجحت وكسبت الرهان العالمي.

تحديات
ومنذ البدايات التجريبية لدار الأوبرا السلطانية كانت الدار تنبئ بأنها قادمة لتتخطى العديد من التحديات سواء كانت تحديات المكان أم الزمان، فعلى المستوى المكاني استطاعت الدار في فترة وجيزة أن تجتذب جمهورا عمانيا وخليجيا لم تكن الأوبرا حاضرة في وعيه الموسيقي من قبل. أما على المستوى الزماني فإنها استطاعت أن تعيد الزمن الجميل لعروض الأوبرا الخالدة وتجاوزت في ذلك الصعاب منذ العرض الأول الذي أعد خصيصا لدار الأوبرا السلطانية وهو أوبرا ” توراندوت” من إخراج فرانسوا زيفيريلي، وكذلك أوبرا “عايدة”، وغيرها من العروض التي يحلم الملايين بمشاهدتها في العالم.
وفي سياق الحديث عن العنصرين الزماني والمكاني لا يبدو حضور دار الأوبرا السلطانية مفاجئا في المشهد الثقافي العماني. فمنذ البدايات الأولى لعصر النهضة العمانية أخذ الاهتمام بالموسيقى والفنون العمانية حيزا كبيرا، بل واهتماما شخصيا من قبل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم. ويمكن أن تقرأ دار الأوبرا السلطانية باعتبارها تتويجا حقيقيا للمشهد الثقافي العماني، بل وتتويجا للاهتمام السامي بالفنون والثقافة بشكل عام والموسيقى بشكل خاص، ويمكن أن نستذكر في هذا الموضع إنشاء الأوركسترا السلطانية العمانية منتصف ثمانينات القرن الماضي والتي تعد اليوم في مقدمة الفرق الأوركسترالية في العالم أجمع.

تعليمية
لكن لا يمكن أن ينظر لدار الأوبرا السلطانية باعتبارها مكانا لعرض الموسيقى والحفلات الغنائية الراقية فقط، إنها أكبر من ذلك بكثير وهذا ما يصر عليه القائمون على الدار منذ البدايات الأولى ويتم الإصرار عليه في كل المؤتمرات الصحفية واللقاءات مع أعضاء مجلس الإدارة فالدار تستقطب سنويا آلاف الطلاب الذين ينخرطون في برامج تعليمية في أروقة الدار، فهم إضافة إلى حضورهم الحفلات الخاصة التي تخصص لطلاب المدارس يشاركون بفعالية في الأيام المفتوحة التي تخصص لهم.
كما يحرص الكثيرون على إحضار أبنائهم للدروس التي تقدم قبيل بدء أي عرض وهي بمثابة مركز تثقيفي وتنويري في هذا المجال. وإضافة إلى البعد الثقافي والتتويجي للمشهد الثقافي العماني لا يمكن أيضا تجاوز بعد السياحة الثقافية التي لا شك أنها كانت حاضرة في الذهن، خاصة وأن السلطنة تتمتع بتاريخ ثقافي وحضاري ضاربة جذوره في عمق التاريخ. ويبدو أن تلك الرؤية كانت تتمتع بحس استشرافي دقيق جدا ولذلك فإن الآلاف اليوم يزورون السلطنة ويتجولون في ربوعها ويكون هدف زيارتهم الأول حضور عروض في دار الأوبرا السلطانية، وتعطي مبيعات التذاكر مؤشرا صادقا جدا فيما يخص هذا الموضوع وخاصة ما يتعلق منها بالحجوزات التي تتم من الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية.

مشهد معماري
وإذا كان إنشاء دار الأوبرا السلطانية تتويجا للمشهد الثقافي في السلطنة فإنه كذلك تتويج لتطور المعمار العماني الذي تفاعل مع الكثير من الأنماط المعمارية الأخرى في الإقليم. ومنذ النظرة الأولى يستطيع الزائر للدار اكتشاف تأثر الدار ببناء القلاع العمانية وهذا يتجلى في المشربيات الخشبية التي تتميز بها البيوت العربية في تصميم بعض التشكيلات الخشبية داخل مبنى الأوبرا .
وهذا أيضا تتلمسه بشكل جلي في تصميم الفوانيس والثريات، وهو أمر يعود إذا ما أعيد إلى بعض جذوره في العهد المملوكي، إلا أن العهد المملوكي ليس الوحيد المتواجد بثراء في مبنى دار الأوبرا السلطانية، بل هناك مشاهد لزخارف مغولية وهندية في العديد من جدران المبنى.
وتتناغم تصاميم وزخارف الدار وذلك الميراث متعدد الأعراق والحضارات بشكل حواري جميل مع الرخام الذي يلعب دورا أساسيا في تصميم دار الأوبرا، حيث استخدم رخام “الترافرتين” الجيري بشكل كبير مما أنتج بريقا بديعا في الأجزاء الداخلية والخارجية، وأعطى المكان الكثير من سمات الاتساع والإضاءة التي يمكن أن يطلق عليها بهدوء وحب إضاءة كلاسيكية؛ وهي تعطي بسخاء مساحة للرؤية العميقة من خلال الأروقة والعقود المتتابعة. وهذا في مجمله قيمة معمارية بارزة في بناء دار الأوبرا السلطانية، حيث فكرة العبور فوق الأزمنة ، وعبرها، مما ينتج في النهاية تراكما معماريا يستلهم من مختلف الحضارات التي مرت على الشرق، وهو في هذا وذاك اختزال للإبداع في أبهى صوره.

تمازج
ولأن الحوار الحضاري يحتاج إلى تمازج بين الأصالة والمعاصرة، ولما كانت دارالأوبرا السلطانية معدة لتستقبل عروضا موسيقية وثقافية عالمية على نحو تكون فيه التقنية العامل الرئيسي، فقد جاء تصميم الدار لتتناسب مع آخر ما وصلت إليه التقنية الحديثة في مجال دور الأوبرا في العالم، حيث زودت بأحدث النظم التقنية المتعلقة بمعالجة ارتدادات الصوت وصداه لكي تتناسب مع نوع الفعالية المقامة، سواء بامتصاص الصدى أو تضخيم الارتدادات، وقد تم دمج النظم في تصميم المبنى لاستعمالها في مختلف أنواع الفعاليات التي تستضيفها الدار. وعلى الرغم من كل التقنيات الحديثة التي يمكن الحديث عنها في دار الأوبرا السلطانية إلا أن الانطباع العام يحيلنا إلى الأناقة العريقة فالمقاعد الوثيرة مزدانة بكمنجات مخملية مذهبة على خلفية حمراء، والأسقف والجدران من خشب الساج المتقن الزخرفة. وبكل هذا الزخم وهذا الحضور في المشهد العالمي تسير اليوم دار الأوبرا السلطانية بخطوات ثابته نحو الأمام ورغم أن عينها على المشهدين المحلي والعالمي إلا أن المؤكد أن عين العالم الراقي والمتخم بالحساسية الفنية عليها ومن كل الزوايا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*