سوق واقف معلم تراثي وسياحي في قطر

الدوحة – فانا |

تتملك المرء مشاعر وأحاسيس عديدة عندما يدخل سوق واقف القطري بمدينة الدوحة، إذ يشعر بأنه في صرح من الماضي العريق، فيرى الفن المعماري القديم في ممراتها وجدرانها ودكاكينها، ومنها يتمكن من قراءة تاريخ دولة قطر بماضيها المميز، والذي يعبر عن القيم الجميلة لحياة البساطة والجمال وحاضرها المتجه دوماً نحو النهضة الحضارية التي تهم في السير إلى الأمام في وقتنا الحالي.

تعتبر هذه السوق من أقدم الأسواق القطرية والخليجية، وهي خير شاهد على تراث الأجداد الذي يطوره الآباء ليتوارثه الأبناء وليكون لهم مفخرة يتباهون بها، توثق جلال عاداتهم وتقاليدهم وتزيدها متانة وقوة على مر الأيام والسنين. تقع السوق وسط العاصمة القطرية الدوحة وأنشئت أصلاً عام 1955. وجهدت الدولة عام 2004 في تطويرها وترميمها وتحديثها مع المحافظة على خصوصيتها التي تعود لأكثر من نصف قرن من الزمان. زاوجت عملية التطوير هذه بين ماضي السوق وحاضرها فتحول من مجرد تراث يبحث عنه البعض من الهواة لشراء التحف والتقاط الصور التذكارية والتعرف على التراث القطري إلى توليفة يجد فيها الكل ما يستمتع به من أنشطة وعروض وفعاليات ثقافية وفنية ورياضية مختلفة ومتنوعة.

تعود تسمية سوق واقف إلى أكثر من 100 عام عندما كانت عمليات البيع والشراء في تلك المنطقة تحصل وقوفاً، وكانت مدينة الدوحة وقتذاك قرية يقسمها واد إلى نصفين تجري فيه السيول الآتية من المرتفعات باتجاه البحر. وعلى ضفتي ذلك الوادي الصغير الذي كان مسرحاً لحركة المد والجزر كان أهالي الدوحة الذين سكنوا ضفتيه الشرقية والغربية يجتمعون للبيع والشراء، ولأن مياه البحر الدافقة لم تترك سوى ممر ضيق فإن الباعة كانوا يضطرون للوقوف طلية النهار، نظراً لضيق المكان لذلك سمي بـ (سوق واقف) الذي يضم حالياً محلات تجارية تباع فيها المنتجات التقليدية كالبهارات والتوابل، المصوغات الذهبية والأواني، والعباءات القطرية المطرزة، والخناجر والسيوف وأدوات الموسيقى بل حتى الاسطوانات القديمة لكبار الفنانين العرب. تعتبر سوق واقف إحدى المعالم التراثية القطرية، وهي البوابة الرئيسية لمدخل السوق الكبيرة وإحدى الواجهات المحببة للضيوف الآتين من الخارج إذ يجدون فيها تنوعاً في البضائع التقليدية والحرف اليدوية كالعطارة وصياغة الذهب والخياطة والتطريز وصنع العباءات العربية للنساء والرجال.

بقيت السوق على ما هي عليه لنحو قرن من الزمان، وحتى بدأ العمل في إعادة إحيائها والمحافظة عليها وتطويرها. ففي عام 2004 وبتوجيهات مباشرة من صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الأمير الوالد وضعت خطة لإعادة إحياء السوق على أسس ودراسات لتراث قطر المعماري ومواد البناء التقليدية التي كانت تستعمل في الأزمان البعيدة. وبهذا التوجيه تم تجديد السوق وإعادة تصميمها وهيكلتها مع هدف بارز يكمن بإبقاء الصلة بين الماضي والحاضر، ولتبقى علامة بارزة على اعتزاز الحكومة القطرية بالماضي وبالتراث الأصيل، وهكذا يشعر المرء عند رؤيته السوق بالبعد الجمالي، حيث القوس والسقف الخشبي المستوحى من الماضي والعديد من التغييرات الأخرى بحيث جعلتها من أفضل المناطق السياحية وتحولها من مكان حي تراثي إلى معلم سياحي وثقافي في العاصمة القطرية الدوحة.

أصبحت السوق متعددة المشارب ومتنوعة البضائع، فمن يرغب في الاستماع للموسيقى الخليجية التراثية سيجد مبتغاه في جلسات موسيقية تعقد باستمرار في باحة السوق الخارجية، وسيجد نفسه جالساً فيما يفضله من مطاعم متنوعة أو مقاهٍ شعبية يستمتع بعزف فرقة موسيقية تقدم له فقرات غنائية متعددة ولا تقتصر تلك الفقرات على الفن الخليجي فقط، بل تشاركها الموسيقى المصرية واللبنانية وهي ما تجذب الجنسيات العربية التي تجد في سوق واقف ما لم تجده في أي مكان آخر.

تنظم إدارة سوق واقف الفعاليات المختلفة للمواسم والمناسبات، إذ تتضمن عروضاً غنائية ومسرحية متنوعة تناسب مختلف الفئات العمرية، وتستقطب عدداً كبيراً من الزوار، خصوصاً في ظلّ ما تشهده سوق واقف حالياً من زخم بشري سواء من رواد المقاهي والمطاعم، أو المراكز الثقافية، أو نزلاء فندق «سوق واقف» الذي أبى أن ينزع جلباب أبيه، وأن يستبدله بحلّة زجاجية منمّقة، فظلّ معتنقاً لهويته. كما أنه لم يخل ساحته للفن المعماري الحديث، فبقي متمسكاً بذلك الفن المعماري القديم الذي تميزه دهاليز قديمة تحيط بها قطع الرخام المصنعة يدوياً والمطعمة بألوان عصرية،اللافت أن الفندق لم يستمد هويته من الشكل الهندسي الخارجي فحسب، بقدر ما استمد روحه التراثية من علاقة أبناء قطر الوطيدة بالبحر، حيث تشتهر مطاعم هذا الفندق بتقديمها المأكولات البحرية التي ما زالت تستقطب القطريين، رغم وجود نحو «1300» متجر ومقهى داخل سوق واقف تعددت جنسياتها وتنوعت ثقافاتها.

يقع فندق سوق واقف الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار عن كورنيش الدوحة في قلب العاصمة القطرية، ويحيط به كل من منطقة مشيرب، والجسرة، والمرقاب. ويتألف هذا الفندق من إحدى عشرة غرفة وجناحين تم تصميمها بعناية فائقة، وانسجاماً مع روح الثقافة الشعبية القطرية. يوفر هذا الفندق التراثي لنزلائه فرصة التعرّف على أروقة السوق العتيق، وعلى مساحة إجمالية تبلغ ما يقرب من 20 ألف متر مربع تسمح لهم بالتعرف على تلك الأروقة التي شيدت منذ نحو 200 عام لتحتضن أصحاب المهن والحرف البسيطة، إلى جانب الباعة المتجولين من بائع «كاز»، و «جزار»، و «سنان»، و «خضار»، و «خباز» وتاجر. وإضافة إلى الإيجابيات التي يعكسها موقع الفندق قربه من مركز المدينة التجاري، ومطار الدوحة الدولي، فإن وجود هذا الصرح السياحي في قلب سوق واقف يوفر عناء النزلاء في البحث عما يمكن أن يحملوه إلى أفراد أسرتهم وأقربائهم، حيث يمكن لراغبي الحلي أن يقصدوا متاجر السوق المتخصصة ببيع الذهب، ويشهدوا على فنّ «الصائغ» بنقش الذهب وفقاً للطراز المطلوب، ويمكن للنزيل من دون عناء الإبحار من دون الحاجة إلى وسيلة نقل في عالم الأعشاب والبخور ذات الأجناس والاستعمالات المختلفة. وعلى بعد أمتار قليلة من هذه المحلات تفترش «المجالس» أرض السوق المعبّدة بأحجار صخرية متقطعة، فتتوزع «الدواشق» أو المساند الخمرية اللون يمنة ويسرة، إلى جانب المقاعد الخشبية القديمة التي ما زالت تبدو وكأنها أغصان لم تحدث فيها يد الإنسان سوى تغييرات طفيفة. وما إن يمرّ السائح بالقرب من هذه «المجالس» حتى تهفّ رائحة المأكولات القطرية الشعبية التي تقوم بتحضيرها النسوة القطريات أمام المارة، وهنّ يرتدين «البرقع» والعباءة السوداء. وعلى بُعد عدّة خطوات قليلة، يمكن للسياح ونزلاء الفندق أيضاً الذين يواكبون المستجدات الثقافية أن يمروا بـ «مركز واقف للفنون» الذي يستضيف الأنشطة الثقافية المتنوعة، إضافة إلى اقتنائه لمحتويات فنية راقية. واليوم، ما زالت سوق «واقف» تشهد ورشة عمرانية تبني مشاريع سياحية مميزة، من بينها فنادق مرفهة ذات مستويات راقية تضاهي فندق «سوق واقف»، ناهيك عن الصروح الثقافية التي ستتمكن من استيعاب كافة النشاطات التي تقوم بها الجهات الرسمية والخاصة في السوق»، من بينها مسرح يتسع إلى ألف شخص. لا بد من كلمة أخيرة فنقول لقد استطاعت سوق واقف أن تفرض سحرها حتى على القنوات الفضائية التي جعلتها عنصر جذب لبرامجها، فهي تخصص للفائز من مشاهديها تذاكر سفر إلى بلاد السوق العريقة ليحظى بإقامة سعيدة وتجوال ممتع وشائق، ولأن جميع من يزور قطر يسمع عن سوق واقف فإن زيارتها بالتأكيد ستكون هي أول ما يفكر به زائر العاصمة القطرية الدوحة. وهكذا ونحن نتجول في سوق واقف، علامة السياحة في قطر وفخر الشعب القطري، نرى في الدوحة تجسد الأزمنة المتعاقبة، ونعيش الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*