مرافىء | قراءة في وجوه المسافرين من مطارات الربيع العربي

بقلم- حمود بن سالم السيابي | تحت نخلة الوطن حيث الظل أطول من العود، ووراء غيمة تتثاءب في حمرة الشفق، وبعينين تتوسدان غلالة نظارة شمسية، يتباطأ الإحساس بهرولة عقارب الساعة وفحبح الوقت.

وما أن تأخذك ال”بوينغ” من الأرض الثابتة باوتاد جبال مسقط وذرى جبال شمس وسمحان وسارية قصر العلم، وأعمدة الحكمة لبيت البركة وقصر الحصن والشموخ، يندفع الادرينالين وتتسابق مضخة القلب مع محرك “رولزرويس” في الطائرة، فتتألق الجوارح وتظهر قدراتها الاستثنائية في قراءة وجوه الركاب الذين يشاركونك الجلوس في مقاعد الطائرة بحكاياتهم ومآسيهم وخيبات دولهم الموبوءة بالربيع.

هذا الراكب العربي الجالس بجوارك يحتضر في عينيه تاريخ دولة مهابة، كان اذا تحمحم سيدها صدام في دجلة يتداعى له ايوان كسرى، وإذا كبر ترتعد له أوصال حاخامات صهيون، فيسارع جنرالاتها بإطلاق صفارات الإنذار لتنام تل أبيب وحيفا ويافا في المخابىء بعد أن أظهر الباتريوت عجزه على اصطياد صواريخ صدام  المعمدة بدماء القادسية ورايات الحسين وحناء زينب.

ولكن الفخر الذي يتملكك بأرض الفراتين هو ذاته الذي يقتلك اليوم وأنت ترى جمجمة العرب وعنفوان الأمة  تطأطىء رأسها، فكسرى ومرازبته ووكلائه وزبانيته  ينامون في خدرها، وعلى مخدتها، ويقيمون أواوين جديدة في أم المدائن، ويفرضون الفارسية لغة في “سر من رأى”.

أما ذلك الذي يتحايل على المضيفة بكأس آخر لتطول غيبته عن واقعه، فقد ركب من مطار الكنانة ومعه خيبات الفصول الأربعة التي تعاقبت على بلاده، حيث وائل غنيم يكتب ببخاخ الصبغ على مقدمة الدبابة المتشحة بأكاليل نصر أكتوبر “يسقط مبارك” بطل حرب العاشر من رمضان، و”أسماء” تبصق بكل غل على خوذة جندي معقر بزعفران سيناء، و”نوارة” تركل بقدمها بوابة الأزهر ليصعد حجازي منبر جاد الحق وشلتوت وطنطاوي ليهتف يسقط حكم العسكر.

أما ذلك المهزوم في أعماقه واللاهي بتصفح مجلة السوق الحرة في الطائرة، والتنقل بين زجاجات الإثم وقوارير العطر وإعلانات ساعات سويسرا وعلب تبغ كوبا، فقد جاء إلى الطائرة ليسوق الربيع الموهوم في نسخته التونسية، وليجعل العرب يرقصون مع سولاف “جاري ياحمودة” فيما الشارع المجنون يخلع قلادة الاستقلال من رقبة الماجدة وسيلة، ويفرم بحذاء “أديداس” نظارة الحبيب بورقيبة، ويضغط مراقب الملاحة في برج مطار تونس قرطاج على الأزرار بعشوائية لتضليل طائرة زين العابدين وإخفائها من الرادار لتبتلعها صحراء تشاد، أو تستقر في عمق الأبيض المتوسط، أو تعود القهقهري لتهبط اضطراريا في المانيستير بدل مطار الرياض، وكأن التونسي لم توجعه الطبعة الفارسية لربيع العراق الممهد لربيع تونس، وكأنه لم يشاهد “الجزيرة” وهي تنقل على الهواء غزو التتار، وكأن “سي إن إن” لم تبث زحف أوباش مستر بوش ليكسروا سيف خالد، وصولجان الرشيد، ويتقاسموا فيروز العباسة والخيزران، ويعبئوا مياه شط العرب في زجاجات مسعرة بالتومان.

أما ذلك الراكب المغسول بربيع العرب في نسخته المصرية، فإنه هو الآخر لم يتريث ليقرأ نشرة الطقس الليبية التي اقتلعت وتد الخيمة العربية في العزيزية ويتمت نوق العقيد وطمرت نهره العظيم، ولم يفك حروز  وطلاسم وألغاز الربيع بنسخته اليمنية حيث الهواء المعطر بقهوة الحديدة بات مسموما بتقاتل الرفاق، وحيث قات كوكبان لم يعد سيد مقايل صنعاء بعد أن انفض القايلون وذهبوا ليفقعوا عيني بلقيس وليحتفلوا مع توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام، في بلد تصطف فيه الدبابات الشخصية المملوكة للأفراد مع سيارات العائلة في البيوت.

وتسألني عن الجالس خلفك وهو “يمزمز” بفستق حلب فقد جاء من “جلق” شوقي، وصبابات بردى، وعطر ميسلون، وقصائد المعري المتسائلة عن الشبه بين صوت النعي إذا قيس بصوت البشير، حيث يقرأ هو الآخر الربيع بشكل معكوس عن الربيع الذي اعتاد ان يعلق ياسمينه الدمشقي في المرج ومآذن الجامع الأموي ومدخل الحميدية وباب توما، ولذلك يعمد على سكب المزيد من البنزين على رأس بوعزيزي، بما يكفي لحرق الشام الشامخة في الراية الأموية والكبيرة في صفحات الحافظ ابن عساكر والمتأنقة دوما في حلل نزار حيث البنفسج بين عينيها ينام ولا ينام، ليختزل الألق الشامي وتاريخ دمشق بقصر تشرين وضريح القرداحة.  والعتبات التي تستحضر لطميات لرقية وزينب.

كل رفاق رحلتك أخي على ال “بوينغ” هم ركاب بعثرة الجغرافيا والشتات، ورواد المنافي البعيدة الذين شكلتهم كيمياء السياسة من خلاصة منجزها التجريبي لقرن من الزمان، بدءا بأفيون البلاشفة، إلى اشتراكية تيتو، إلى شيوعية ماو، إلى الثورة الثقافية لشوئنلاي، إلى تنظيرات حسن البنا ورومانسية الحلم الناصري، وانتهاء بآخر رصاصة اخترقت قلب بن لادن في مخبئه ببلدة أبوت أباد.

وكل هذه النسخ المتهافتة للربيع العربي تتقاطع والربيع الذي قرأناه في كتاب القراءة الرشيدة وعهدناه طلقا ضاحكا كاد من الحسن أن يتكلما، فالربيع الذي اجتاح الجغرافيا العربية للاسف جاء “طلقا” ولكن في وجوه الأعداء فقط، وضاحكا علينا وعلى خيباتنا، وجاء عكس الربيع الذي اختال في أزمنتنا بعصافيره الخضراء وهي تتنقل من غصن إلى غصن، فرأينا ربيعا جديدا تتنقل فيه البراميل المتفجرة من حارة إلى حارة.

وجاء في صورة مغايرة وعلى النقيض من صورة الربيع المقترنة بتفتح الزهور ومطاردة الأطفال للفراشات، حين هيمنت الصواريخ في سماء دول الربيع العربي الكاذب لتطارد الأطفال وتفجر رؤوسهم وتكسر لعبهم وتجتث الدروب الراعفة بالبراءة والشقاوات.

أخي… وأنت تترك ركاب طائرتك لتحط من جديد في مطار مسقط، ستدرك إن رباط العز، ودار الأمن والأمان، ودولة آل سعيد، استقبلت هي الأخرى هذه الأكذوبة الربيعية، ولكنها قرأتها بوعي، وفسرتها لأبنائها بوعي، وتعاملت معها بالكثير من الحكمة والحنكة والرحمة والتفهم والوعي.

واستعادت بالعمامة العمانية السعيدية القريتانية الزاهية الألوان الربيع الحقيقي بألوانه الحقيقية وأزاهيره وطيوره وفراشاته الحقيقية.

واستطاعت حكمة سيد سادات آل سعيد ان توجه البوصلة نحو التعاقب الحقيقي للفصول، ليبقى الصيف صيفا بطعم القيظ ولون الرطب، والخريف خريفا بغلالته الرمادية ورعشة الأشجار، والشتاء شتاء بحلله النوفمبرية وبهجة أعياده، والربيع ربيعا طلقا ضاحكا كما رسمه البحتري، وكما قرأناه في القراءة الرشيدة وكما يقرأه معنا العرب بعد فوات الأوان وهم يكبرون وعينا بالقراءة ووعينا بالفصول.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*