مرافىء | عُمان دائنة وليست مدينة وجاهدت ليأمنوا وسهرت ليناموا

بقلم: حمود بن سالم السيابي | يحتويني سمحان والقمر فأتنفس اللبان والكبرياء، فالرفاق الشيوعيون كانوا هنا يعزفون بالروبل والكلاشنكوف النشيد الأممي، ويدندنون بالسوخوي لحن المسيرة التطوعية، ويحتشدون على حدودنا الجنوبية  ومعهم الأنتونوف والميج والتوبوليف، ليمطروا جبالنا  بالكاتيوشا، ويحرقوا أكواخنا بالمولتوف، ويفخخوا حقول الدجر بالألغامات المضادة للأفراد، ويرسلوا  إلى الدهاريز والحافة وعوقد هداياهم من رصاص الدمدم، ويرسموا على براءة الأطفال نجماتهم الحمراء، ويدسوا  في الحقائب المدرسية وهبان الرعاة أناجيل اليسار (الكتاب الأحمر والمانيفستو ورأس المال) ويحشوا الأدمغة بأفيون البرجوزاية وعصر الجماهير ونضالات  الطبقة الكادحة وسيادة البروليتاريا.

وأصعد إلى حدبين، أتصفح بشموخ عطر الأقدام التي مرت وهي تدوس على الأحلام الكبيرة للغزاة، وأشم زهور البيضح وأنا أقلب ذاكرة المكان الذي اجتث الأطماع المرعبة للدخلاء، وأرتقي إلى حبرير لأطل على بانوراما الأمس وأعيد تشكيل مشاهد الحرب التي أفشلت كل المؤامرات الخبيثة والخطط الجهنمية.
وأطل على صرفيت وعلى خطوط دفاعاتنا المتقدمة لأملأ رئتي هواء نظيفا، وأستعيد البطولة والأبطال، فسيد عمان كان هنا، ومعه التاريخ والمستقبل والرجولة والرجال. وأعيشه يرفع بيارق عُمان على غرر الدهر ويضيف لسجل أسلافه العظام المهلب والصلت بن مالك وابن مرشد وقيد الأرض وأحمد بن سعيد وسعيد بن سلطان صفحات راعفة بالمجد.
وتحاصرني الأسئلة عن دولة تحارب نصف العالم وتنتصر، وعن شعب يواجه الأيديولوجيا التي تكتسح نصف العالم فيهزمها، فأجد الإجابة في أن سيد عُمان مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم القائد الأعلى للقوات المسلحة آمن بالفئة القليلة التي تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وبأن الله مع الصابرين.
وحين بادر العدو بالشر مزهوا بعديده وعدته لم تفلح خططه لجهله بطبيعة الأرض التي يقف عليها وبصلابة الرجال الذين يواجههم، فيما كان سيد عُمان مدركا لقوة الخصم ومواطن الضعف في تلك القوة، فوجه رجاله ليوسعوا رقعة ضعفه لتتداعى قوته.
واعتمد العدو على الريموت كنترول لتحريك رجاله من موسكو وبكين وبرلين وبراغ وهافانا، فيما اختار سيد
عُمان أن يكون في الخطوط الأولى، وأن يتنفس مع الرجال زعفران الأرض وعبق البارود، وأن يعيش أشرف أيام الوطن وأزهاها بين أبطاله، يقاسمهم كسرة الخبز، وكؤوس الشاي، ويعقد لهم الرايات، ويبشرهم بإحدى الحسنين في معارك لا تقبل القسمة إلا على النصر أو الشهادة، ذودا عن عُمان والمنطقة، ودحرا لغزو لا يستهدف عُمانوبل يتخذ منها ممرا ليستقر في النهاية في كل الجغرافيا الممتدة من حدود اللبان إلى حقول النفط في فهود وأم الشيف والغوار والسفانية والدخان  وبرقان.
ولتفشل عُمان أبعاد المؤامرة الدولية التي تحلم بالوصول إلى المياه الدافئة إنطلاقا من بحر العرب إلى شط العرب مرورا ببحر عُمان ومياه الخليج العربي.
وقد كان الثمن باهضا ليتمكن المؤذن من أن يكبر، ولجلسات الذكر أن تنعقد ولخطيب الجمعة من أن يرتقي المنبر. وكان الجهد خارقا لكي تسترد الأرض المحروقة خضرتها، وتستعيد الجغرافيا الراعفة بالإستشهاد أهلها، وتنبض  الصبيغة من جديد بلونها النيلي، وتعبق الأكواخ من جديد بالحوجري، وليشعشع النانا والدبرارت حنينا وعشقا وتشاويق. ورغم جحود الجاحدين، فإن التضحيات العمانية هي التي وفرت لحقول نفط  الخليج أن ترسل شعلتها في أفق المنطقة لتطرز الحياة أبراجا ومصانع ومجمعات ومطارات ومدنا حديثة.
ورغم إنكار الناكرين، فإن آلاف الشهداء الذين زفوا إلى السماء من أبناء الجلندى بن مسعود وانتهاء بأبناء قابوس بن سعيد هم الذين مهدوا المكان، ووفروا فرص استثمار المكان.
ورغم تعامي المتعامين، فلولا تلك الدماء الغالية التي أريقت، لكانت شوارع المنطقة كسروية الأسماء وقيصرية الدلالات، ولكان لحلف وارسو أكثر من ميدان، ولستالين أكثر من جامعة، ولماو أكثر من تمثال.
ويخطىء من يظن أن البيروسترويكا لميخائيل جورباتشوف هي التي هدمت المعبد على رؤوس البلاشفة فتبعثرت قطع الشطرنج من المربعات السوفياتية، بل البندقية العمانية هي التي صنعت نصر الحادي عشر من ديسمبر 1975، وهي التي سكبت حبر البيروسترويكا التي عجلت بانهيار الشيوعية وتحطيم أحلامها في الوصول إلى المياه الدافئة، إلى أن تشظى حلف وارسو وتسابقت دوله لتكون ضمن حلف الأطلسي  ودول الشنغن.
ولا نزعم أننا هزمنا القوة الأممية الثانية، و لا ندعي أننا أغرقنا بوارجهم في بحر عُمان، ولكننا نؤكد وبكل ثقة أن صمود عُمان وصلابتها حرمت البلاشفة من غرس نبتاتهم الخبيثة في تربتنا الطيبة، وأننا حرمناهم من أن تكون
عُمان قنطرة لعبور أحلامهم إلى الخليج، وأننا بتمسكنا بعقيدتنا وبانتمائنا الأصيل لترابنا وبغيرتنا على المنطقة  الراعفة بتضحيات الآباء والأجداد أفشلنا كل الخطط، واجتثثنا كل الأفكار واستأصلنا شأفة كل النظريات الهدامة، وكتبنا بكل ذلك مقدمة البيروسترويكا قبل أن يحمل جورباتشوف وزر انهيار الفناء الخلفي لموسكو وستالينجراد.
وأغادر شوامخ ظفار إلى جربيب، وإيتين، أتتبع سيارة دفع رباعي لشاب زين مرآتها الخلفية بصورة لسيد عُمان
بلباسه العسكري، ووشاها بعبارات تعكس شوقه وشوق كل العمانيين لعودته، ففاضت الدموع وأنا أتنقل بين الصورة وجهاد صاحب الصورة، وبين الصورة وصور الأسلاف من الجلندى إلى قابوس، وبين تضحياتنا المعمدة بالدم والشهداء، وبين المنتظرين ليقطفوا الثمار الجاهزة بل ويجاهر البعض وبلا خجل ولا حياء ان بلاده حاربت الشيوعية وحققت الاستقرار في عُمان، فيا عماننا الغالية ويا أيتها الكبيرة، الكبيرة، الكبيرة، ويا أيتها   الدائنة بلا مكاتبة، والمانحة بلا منة، والمعطية بلا حدود. لا أبالغ إذا قلت أن اسمك الأزهى يتجلى في امتداد كل هذا العمران في جزيرة العرب، فلولا تضحياتك لما ارتفع حجر على حجر.
ويتلألأ رسمك الأبهى في كل شارع من شوارع المنطقة، وإن لم تفصح بذلك اللافتات، فلولاك لما تكحلت الدروب المتربة بالإسفلت، ولما كانت هناك شوارع ولا أحياء ولا أسماء.
ويا أيتها المرفوعة الرأس، والمترفعة عن الصغائر، لا أبالغ إذا قلت أن إسهامك يسطع في كل برج خليجي  يخترق الغيم، وإن لم يتشرف بحمل اسمك، وفي كل مصنع يلون بمداخنه الأفق، وإن لم يقترن باسم رمز من رموزك، وفي كل مطار يربط القارات بالقارات، وإن لم يسجل في منظمة الإياتا باسم مدينة من مدنك، ولم يوثق في اتفاقية شيكاغو بسلطان من سلاطينك.
ويا أيتها الشامخة، كنت ومازلت وستبقين الممهدة للجغرافيا بالهمم الأقطع من أسنان بلدوزرات كوماتسو وكاتربلر، والمساهمة بالدم الذي يتجاوز حجمه ورقمه  أرصدة بنوك الدنيا.
لقد جاهدت يا عُمان ليأمنوا، وحرست يا عُمان ليطمئنوا، وسهرت يا عُمان ليناموا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*