مرايـــا | رحلت… ولكن

 المكان: المدرسة النموذجية للبنات في روي

الزمان: منتصف الثمانينيات

بطلة الحكاية: زكية القمَاز

بقلم: د.عهود بنت سعيد البلوشية | تتراءى لي وجوه زميلاتي في المدرسة النموذجية، وأكاد أسمع أصواتهن العالية وهنَ يمرحن في ساحة المدرسة خلال الفسحة، تمرُ عليَ وجوه المعلمات والهيئة الإدارية في تلك المدرسة الصغيرة التي بنيت خصيصا لتكون مركزا أكاديميا لصقل القدرات العلمية للطالبات العمانيات المتفوقات في مدينة مسقط.

يختلف المبنى الذي يعكس النظام التعليمي المتميز عن بقية مباني مدارس السلطنة فقد خُصص لكل مادة فصل دراسي معيَن بحيث تتنقل الطالبات بين الفصول بحسب جدول المواد. كانت المدرسة مجهزة تجهيزا يفوق تجهيزات المدارس الحكومية الأخرى- في ذلك الوقت- بمختبر ومسرح ومطبخ متكامل وملاعب رياضية للتنس والكرة الطائرة وفصول مخصصة للرسم والخياطة وطبعا مكتبة تضم مختلف الكتب القيَمة. في زاوية من المكتبة يوجد مكتب صغير مخصص لشخصية مميزة، تجلس “أبلة زكية القمَاز” معلمة اللغة العربية أردنية الأصل وعمانية الهوى بقامتها الفارعة وزيًها الذي صار علامتها المميزة المكون من معطف واسع طويل يصل إلى أسفل ركبتها وبنطال واسع فضفاض طويل يلامس الأرض، يزيِن رأسها حجاب يحيط بوجهها الضعيف بتعابيره الجادّة والخالي من أي مساحيق تجميل، لا يستطيع الناظر إليها تجاهل عينيها الصغيرتين اللتان تشعان ذكاءً وتصميماً.

تجبرك هيئة أبلة زكية المهيبة على احترامها وربما الخوف منها، كانت قليلة الكلام ومقلَة جدا في علاقاتها الاجتماعية. لم تكن تختلط ببقية المعلمات في الغرفة المخصصة لهن بل كانت تقضي جلَ وقتها في المكتبة محاطة بأعداد كثيرة من الكتب بمختلف الأحجام، ولكن تشترك في كونها جميعا تتعلق باللغة العربية وآدابها. بنفس الصورة المتكررة كنا نراها غارقة في العمل سواء أكان تحضيراً أم تصحيحاً أم قراءة. لم نكن نحن الطالبات نعرف الكثير عن حياتها الشخصية سوى أنها من الأردن الشقيق وغير متزوجة وتعمل منذ سنين في السلطنة.. الأمر الذي كنّا متأكدين منه- في تلك السن الصغيرة- هو عدم رغبتنا في أن تُعلمنا أبلة زكية لأننا كنا نسمع عن جديتها في التدريس وصعوبة اختباراتها والواجبات المنزلية الكثيرة التي تلزم طالباتها بها. لذا كما تتصورون فقد كان وقع الخبر عليَ مؤلما عندما علمتُ- وأنا في الصف التاسع- أنها ستكون معلمتنا للغة العربية، واستمرت كذلك إلى أن أنهيت الثانوية العامة.

كان كل ما سمعناه من الطالبات اللواتي تتلمذن على يديها صحيحاً. كانت نموذجاً فريداً من المعلمات لم أصادف مثله ابداً. كانت صاحبة رسالة مقدسة أفنت حياتها في التعليم بضمير صادق واجتهادٍ حقيقي وحرص شديد على تدريس تلميذاتها اللغة العربية بفروعها المعرفية المتعددة. لم تكن تقتصر على تدريس الكتاب المدرسي بل كانت تتعمق في الشرح مستخدمة مصادر مختلفة عكفت ساعات طويلة على استخلاص المفيد منها وتلخيصه. لا لم تكن تكتفي بأن نقرأ تلك الملخصات والشروح ولكنها كانت تُصر على أن ننقلها يدويا على دفاترنا حتى تتأكد من أننا قد قرأناها بالفعل. لم نكن نتجرأ خلال حصتها على إضاعة الوقت في الأحاديث الجانبية، وقطعاً كان السرحان خارج اختياراتنا. أوصلتنا مهنيتها العالية وشرحها الواضح واهتمامها الكبير إلى فهم عميق للغة العربية وبلاغتها التي أُغرمنا بها منذ أن كُشِفت لنا أسرارها.

عندما وصلني خبر وفاتها قبل سنوات، شعرت بحزن عميق وندم على التقصير في حق إنسانة أفنت عمرها في تعليمنا من دون انتظار مقابل. بل كان المقابل- من الأغلبية- تذمرا ونفورا. هذه الأستاذة القديرة هي من غيَر مجرى حياتي عندما أصرّت على إدارة المدرسة السماح لي بالالتحاق بالقسم الأدبي في المرحلة الثانوية لعلمها بميولي الأدبية. لا أدري ماذا كان سيكون مصيري لو لم تفعل ذلك؟ الذي أعرفه هو أنني بعد أن كنت أغفو في حصص الرياضيات والفيزياء ويُطلب مني أن أجلس في المقاعد الخلفية حتى لا أشتت زميلاتي في الفصل بتثاؤبي المتكرر، صرت أحرز أعلى الدرجات في القسم الأدبي، وبفضل من الله تصدرت قائمة أوائل الثانوية العامة للقسم الأدبي. أتذكر كم كانت فخورة بي حينها، وكم كنت فخورة بنفسي عندما نشرتُ- بتشجيعٍ واهتمامٍ منها- أول مقال لي في جريدة عُمان وأنا ما أزال على مقاعد الدراسة في الصف التاسع.

وعلى الرغم من تخصصي في اللغة الإنجليزية في دراستي وعملي، مازالت لغة الضاد حيَة في ذاكرتي. في كل مرة أمسك القلم وأكتب باللغة العربية لا أنسى أن أترحّم على من علمتني الفرق بين المبتدأ والخبر وبين الجملة الأسمية والجملة الفعلية لأنني بالفعل لم أكن أعرف الفرق بينهم في بداية الصف التاسع.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*