مرافئ | نبيل البرتغال والحديث عن التاريخ الذي يكتبه الهواة

بقلم: حمود بن سالم السيابي | رغم قصر قامتي كنت أطول الناس في البرتغال أو هكذا خيل إلي، وأن كل الماشين في ساحة الحرية بلشبونة أو الواقفين في ميدان “دوم بودرو” أو المهرولين إلى بيوتهم بعد يوم تسوق في “أوغستا” كانوا أقصر الرجال في بلاد الفرنجة . وحين وقفت بجوار تمثال البوكيرك كادت المناكب أن تتساوى، بل كنت أبدو الأطول وأنا أقف على الأرض بينما   البوكيرك يشمخ على قاعدة ضخمة تتيح له رؤية التلال السبعة للشبونة وتتيح للبرتغاليين الحلم بالإبحار من جديد صوب الشرق. تسمرت طويلا أمام تمثال الرجل الذي تنفس يوما هواء  عمان المشبع بحرارة المقاومة ودم الثوار، وجلست أرقب شمس لشبونة وهي تغطس رويدا رويدا في نهر “التاخو” لأسافر مع حمرة الغروب حيث الشمس ترسل أشعتها صوب التمثال فتلقي بظله في الشارع ليتكسر تحت أقدام العابرين، وكنت أقف شامخا ومزهوا في نفس المكان وقبالة نفس الشمس ولكن بلا ظل .

اقتربت من البوكيرك قيصر البرتغال وأسد بحارها أسائله  عن شطآن بلادي الراعفة بالشهداء، وعن الأحرار والحرائر، وعن الأساطيل واليعاربة، وعن ناصر بن مرشد وقيد الأرض، وعن أمة تموت أو تنتصر من دون أن تنكسر. كان البوكيرك باردا، برودة الحجر والحديد الذي يتشكل منه، وحزينا حزن موسيقى الفادو المعبرة عن أفول شمس أمة كانت ترتع في الشرق وتحمل إلى شبه الجزيرة الأيبيرية الخيول والحرير والعطر والقرنفل . تركت التمثال بظله الممرغ تحت الأرجل لتحتويني  لشبونة المضرجة ببقايا الزهو الأندلسي والمغزولة قلاعا ونخيلا وقصائد، فيزداد الزهو بنفسي كأطول من إختال في ميدان “روسيو” أو وقف فوق  جسر “فاسكو ديجاما”. ومع شروق شمس يوم جديد على لشبونة كنت في كنيسة “سيدة النعمة” أقلب في سجلاتها الممردة بالأسماء النبيلة، وأبحث عن البوكيرك الذي مات في “جاوا” الهندية فنقلت رفاته بأوامر ملكية إلى حاضرة الفرنجة لتستقر في تابوت من الرخام ولتستمتع بعبق احتراق الشمع، وهمسات البيانو في صلوات الأحد، ولتنعم بجمال الألوان والأضواء وهي تتراقص عبر  ايقونات أروع كنائس العاصمة.
كان البوكيرك مسجى هذه المرة. وباردا كتمثاله، ولكن  أسئلتي الملحة انتزعته من رقدته وسكونه فأعادت إليه الروح، وجلس كمذنب يعتذر بعد أن أزاح كل الأوسمة والنياشين عن صدره وكتفيه، وألقى بقلنسوته تحت قدميه، وبقي بيني وبينه الدم والثأر وروح المدن العمانية المقاومة، من بر إفريقيا إلى بحر العرب إلى بحر عمان إلى بر الهند والسند. قال البوكيرك في إعترافاته أنه ربح أكثر من معركة، ولكنه خسر الحرب مع عمان التاريخية، فكان يرفع علمه على دكوك من رمل وسرعان ما تذيبها الأمواج، ولم يستطع رجاله التوغل في عمق الأرض العمانية. وحين عزله الملك مات كمدا لأن المجد الذي تكرس بطول الإنتشار الممتد من شطآن الأطلسي إلى شطآن المحيط الهندي كان انتشارا هشا لم يستطع المحافظة عليه، فجاء ناصر بن مرشد وأسلافه من بعده ليربحوا كل المعارك بل وليربحوا كل الحرب، بينما رجع البرتغاليون القهقهري إلى بلاد الفرنجة ومعهم الصليب والبيارق المنكسة والهزيمة المجللة بلون الموت. قلت له هناك من يعتقد أن العمانيين استقبلوك بطبول الرزحة وصحون الرطب وفرشوا تحت أقدام رجالك الزعفران. فقال البوكيرك إن التاريخ يصنعه العظماء ويكتبه في بعض الأحيان الهواة، وبمقدور كل إنسان أن يشتري اليوم دفترا مدرسيا وقلم رصاص من أرخص بقالة هندية في ركن مهمل لشارع من شوارع المدن الخليجية الصاخبة، وبمقدوره أن يملأ الدفتر القليل من الحقائق والكثير من الأمنيات. وأن يتذكر ما شاء من الجغرافيا ويتجاهل ما شاء.
ودعت البوكيرك الراقد في كنيسة النبلاء ورغم كرهي له إلا أنه كان نبيلا في اعترافاته التي قالها لها وقالها قبل ذلك لمليكه منذ قرون ودونها في سجلات حروبه، وجمعها ابنه في أكثر من كتاب. وبينما أنا أغادر كنيسة سيدة النعمة نسيت أن أذكر لنبيل البرتغال وأسد بحارها، أن اقلام الرصاص على أيامنا تنتهي أطرافها بممحاة تسهل لنا أن نطمس ما كتبناه في لحظة يقظة من ضمير حين تغالبنا الآمال الطوال .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*