مرايـا | حكاية من لندن 2

بقلم : د.عهود بنت سعيد البلوشية /

بدأت وعائلتي رحلة بحث مضنية عن منزل مناسب في مدينة سانت ألبنز الريفية الصغيرة، والمشهورة بكاتدرائيتها التاريخية وجودة التعليم في مدارسها الحكومية وموقعها الجغرافي القريب من العاصمة البريطانية حيث يمكن الوصول إلى قلب لندن في رحلة لا تستغرق أكثر من 20 دقيقة بالقطار، ما جعلها من أكثر المدن البريطانية جذبا للعائلات بشكل خاص.

نعم كانت رحلة بحث مضنية- تلك التي خضناها- حتى نحصل على منزل بالمواصفات التي كنا نريدها في منطقة يُعدَ الطلب فيها على العقارات السكنية يفوق المعروض بكثير. و في مجمع سكنيَ من الفلل الجميلة ذات الأسطح القرميدية الحمراء تحيط به مساحات شاسعة من المزارع والحدائق الغنَاء و تتوسطه حديقة صغيرة بها مجموعة من ألعاب الأطفال حيث يتجمع الأطفال كل مساء للعب، انتقلت أنا وعائلتي للعيش.

في أول يوم لنا في منزلنا الجديد، سمعت طرقا خفيفا على الباب. اعتقدت أنه أحد عمال توصيل الأثاث. لدهشتي كانت جارتي في المنزل المحاذي بوجهها المليء بتجاعيد الزمن وشعرها الناصع البياض ترحب بي في الحيَ بابتسامة واسعة وبفضول النساء المسنات لمعرفة السكان الجدد.

بمرور الأيام تعرفت على جيراني- نانسي و دايف- وهما زوجان في نهاية العقد السابع من العمر. لفت انتباهي نشاطهما الواضح وهما في هذا السن المتقدمة. بعد أن كبر ابناؤهما الأربعة وتركوا منزل الأسرة، تقاعد الاثنان من عملهما وقررا أن يعيشا السنوات الباقية من عمرهما في تعلم أشياء لم يكونا يملكان الوقت لتعلمها أو ممارستها. تفرغت نانسي لممارسة رياضتي الغولف والتنس الأرضي مما انعكس على قوامها الممشوق الذي تحسدها عليه من هنَ أصغر منها بكثير. كما ركزت جهودها على العمل الخيري في مجال العناية بكبار السن من ذوي الاحتياجات الخاصة وهي مُهمة تقول عنها “مُرهقة ” كون التعامل وخدمة هذه الفئة يحتاج إلى الكثير من الجهد ولكنها خبرة تشعرها بالكثير من الرضا والسعادة. بينما انصرف دايف المهندس سابقا في سلاح الجو البريطاني إلى تعلم هوايات لم تكن ضمن اهتماماته في الماضي: الرسم والعزف على آلة الجيتار. يبتسم وهو يخبرنا عن أول درس له في الرسم حين تعلم أن الرسم يحتاج إلى الكثير من الصبر والدقة.

في كل مرة أرى دايف وهو مشغول بإصلاح سيارته الصغيرة أو نانسي وهي تعتني بحديقتها الجميلة ذات الورود والأزهار الرائعة، أبتسم لأنهما يقدمان لي صورة حيَة مليئة بالتفاؤل والأمل بأن الشعور بجمال الحياة ليس مرتبطا بعمر معيَن، بل أن الحياة رحلة بوجهات متعددة من الجيد أن نعيش ونستمتع بكل محطة منها.

الساعة الآن تقارب الرابعة والنصف عصراً، حان موعد عودة أطفالي من المدرسة. أسمع أصواتهم وضحكاتهم البريئة وأفتح باب المنزل لاستقبالهم. تزداد ابتسامتي وأنا أرى نانسي قادمة وهي تحمل طبقا من الكعك الذي خبزته خصيصا لهم، وأتمنى من كل قلبي أن أكون على نفس القدر من النشاط وحب الحياة عندما أصل إلى عمرها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*