حكاية.. الهوري ‏

تكتبها: منى المعولية /

الذهاب إلى شاطئ البحر له من الذكريات الشيء الكثير، خاصة اذا كانت تلك الذكريات في زمن طفولي. هناك في قريتنا الصغيرة القريبة تتهادى أمواج البحر لتعانق رماله الناعمة ، ومحار يقذفه زباد البحر ليستقر على سيفة الشاطئ.
لم تعد الأشياء في تلك البقعة كما كانت في زمن ما، فكل شي تغير وإندثر تحت مشروع الشارع البحري المنتظر منذ سنوات طويلة، رغم انه هجر البحارة من سكناهم قرب بحر عاشوا منه وبقربه وغسلوا أجسادهم بمياهه المالحة.
هناك بقايا قارب تقليدي نادرا ما نراه على شواطئنا في هذا الزمن ، وإن وجد فإنه موجود لغرض سياحي أو فني، لا يزال ذلك القارب شاهدا على حقبة عاشها الأجداد كفاحا ومشقة بحثا عن وسائل الرزق في زمن ما قبل بزوغ فجر النهضة، في عصر كان البحر نافذة الرزق الأولى التي يطرقها الإنسان لكبح شظف العيش وردعه.
انه قارب (الهوري) المكون من قطع خشبية، نتذكر كيف كان “يدفه” أجدادنا نحو الشاطئ كل صباح أو إلى اليابسة عند العودة من رحلة صيد.
يجلس قرب ” الهوري” رجل تجاوز الثمانين عاما، توجهنا نحوه بخطى تغوص في الرمال الناعمة، وجدناه وقد ذابت شموع عمره محترقة بعد سنوات كفاح، اثمرت خبرة ووقارا منقطع النظير ، عيناه يملاؤهما الشوق والحنين إلى البحر وكلمات “هيه يامال”.
الوالد خلفان بن صالح الحمداني أحد سكان قرية المراغ الواقعة على ساحل مدينة بركاء في محافظة جنوب الباطنة، والواقعة على الجزء الشمالي للسلطنة، رجل مسن قضى عمره مجاورا البحر مترزقا من خيراته، لسانه يلهث بالشكر والذكر لما آلت إليه البلاد من نعمة وفضل وإزدهار بعد بزوغ فجر النهضة المباركة وتولي قائد البلاد المفدى مقاليد الحكم .
ويحكي الوالد خلفان قائل.. “جيل اليوم لم يعايشوا ولم يعانوا الحياة القاسية التي عايشها أجدادهم “. وأشار باصبعه الى “الهوري” مؤكدا ان هذا القارب الصغير المنحوت من جذع شجرة الفنص كان وسيلة إبحار. وكانوا يستوردون خشبه من الهند ويستخدم أيضاً كوسيلة تنقل من وإلى السفن الأكبر حجماً، ولا يتسع الهوري لأكثر من 5 أشخاص، و لا يزيد طوله عن 15 قدما إلا نادراً. الهوري له مجدافان يساعدانه على الحركة ولكنه لا يمكنه الذهاب بعيدا حيث إن أقصى مسافة يقطعها لا تتعدى بحر العشرين وهو وسيلة بدائية ليست ذات فاعليه قصوى إذا ما قارناه بقوارب صيد أخرى، وهناك نوع أخر من الهوري أكبر حجما يستخدم فيه الشراع في تحريكه والمجاديف قد تصل إلى ستة أو ثمانية مجاديف ويمكن أن يصل إلى مناطق ساحلية أبعد مثل بحر السيب أو حتى إلى صور وبالتالي فإن حمولته من شباك الصيد والصيادين تكون أكبر وبالنسبة لإستخدام المجداف أو الغدف حسب اللهجة العامية فإنها تستخدم لمساعدة القارب على الحركة.  كما إن إعداد هذه المجاديف تعتمد على حجم الهوري فكلما كان أكبر كان عدد المجاديف يزداد وبالتالي فإن إستخداماته تكون أكثر بحيث إن أكثر إستخداماته في صيد الأسماك كما يساعد في عمليات النقل البسيطة القريبة أو متوسطة البعد في حدود الشريط الساحلي بين مدن السلطنة .
ويقول: حجم الهوري أيضا يختلف حسب المنطقة بحيث إن هذا النوع من القوارب قد يكون أكبر حجما كما هو الحال في بحر محافظة ظفار، خاصة إن طبيعة أمواج المحيط هناك تحتاج إلى قوارب أكثر صلابة وأكبر حجما لتمخر عباب ذاك البحر الهائج في أهدى حالاته. ويحكي الوالد خلفان قصصه قائلا: الهوري لم يعد حاضرا اليوم كما كان في خيارات استخدام الصيادين في الزمن الماضي، ولكنه يبقى شاهدا على حقبة تاريخية هامة لبحارة عمان الذين تدرجوا في إقتناص وسائل الرزق وإستغلال كل ما يساعدهم على توفير متطلباتهم وتظل تلك الوسائل ذكرى من الزمن الجميل.
ويسترسل الوالد خلفان في حديثه  مستحضرا لنا ذاكرته قائلا كنا عند الذهاب إلى البحر والإياب نستخدم ألواحا من الخشب أو ما يعرف عند البحارة العمانيين باللاسية وهي عباره عن ألواح (حطب) طولية دائرية  سميكة ولكن عرضها لا يتعدى 30 سم وقد يصل طولها مساويا لطول الشخص البالغ، يتم رصها على أرض الشاطئ بطريقة متفاوتة ومتوازية عرضيا كسلم حتى نستطيع أن نوصل الهوري إلى البحر وكذلك عند العودة من رحلة الصيد فإننا نستخدم نفس الألواح وهي بذلك تقوم بدور العجلة المحركة للهوري، ويستخدم لجلو هذه الألواح الشحوم المستخرجة من المواشي المذبوحة خاصة أيام الأعياد لان في “زمان أول” لم نكن نعرف اللحم كما هو اليوم، ويعمل الشحم كزيت لتشحيم الألواح، لتوفر إنسيابية ومرونة لحركة الهوري عليها ترافقه بعض الأهازيج الجميلة التي يطلقها الصيادين لعل أروع ما فيها حين يرددون، “يا الله على الله والدائم الله”، وهذا حال الإنسان العماني الأصيل قديما وحديثا مستبشرا صابرا شاكرا في الرخاء والشدة.

وبين مطرقة ذكريات الماضي وسندان الحضارة وتقدمها تركنا الوالد خلفان ونحن نأمل العودة إليه مرة أخرى في حكاية أخرى وسرد مسهب أخر من تلك الحكايات الجميلة التي خلفها أجدادنا عن هذه الآثار كـ (الهوري) الشامخ والذي يضم بين طيات ألواحه الباليه حكايات أناس استقلوه يوما وتساقطت حبات عرق كفاحهم على متنه حين عانقت سواعدهم السمراء شمس الدهر وقسوته وكأن على بقايا أطلالها قد كتب أسماء أصحابها ومن مر بها يوما.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*