موقع البليد الأثري.. قبلة السياح نحو محافظة ظفار

صلالة – العمانية | 

مع دخول فصل الصيف وبدء الإجازات واقتراب موسم الخريف في محافظة ظفار تعود إلى الواجهة المواقع الأثرية في سياق الاهتمام الكبير والمتزايد من الناس للسياحة الثقافية. وتتمتع محافظة ظفار بالكثير من المواقع الأثرية التي يحرص السياح على وضعها في جدول زياراتهم للمحافظة.
ومن بين تلك المواقع التاريخية المهمة يأتي موقع (البليد الأثري) كأحد اهم المزارات التاريخية الثقافية. ويمكن الحديث عن موقع البليد طويلا، ولكن أهم ما يقف عنده الزائر هو كيف تحول موقع مندثر منذ أزمنة طويلة إلى الواقع ليرى النور .
هذا بالضبط ما حصل للموقع نتيجة الجهود الكبيرة التي بذلت من قبل مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية الذي استطاع تحويل المنطقة إلى قبلة السياح من كل مناطق العالم ممن يزورون للمحافظة.
تقع البليد على بعد أقل من مائة متر من ساحل المحيط الهندي، وهي مدينة معروفة من قبل المؤرخين الإسلاميين باسم ظفار. ورغم الدمار الذي تعرض له الموقع، إلا أن مساحة منه بقيت تزيد على 1500/800م وفق ما تذكر الموسوعة العمانية.
وحدد عالم الآثار باولو كوستا عام 1979 مساحته بحيث يمتد على طول الساحة شرقا وإلى حدود منطقة الحافة. ويضم الموقع شواهد أثرية تنتمي غالبيتها إلى العصور الإسلامية الوسطية.
ويشغل الجانب الغربي من الموقع المباني الرسمية الضخمة والمقابر، وبقايا الجدران الحجرية والأعمدة الظاهرة على السطح. وصف الموقع من قبل الأوروبيين منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي، فقد زاره هاينز وتلاه كروتندن عام 1836 وكارتر في الفترة 1846ـ1851 ومايلز في ثمانينيات القرن التاسع عشر وغيرهم.
كانت مدينة البليد إطلالا مهجورة عندما وصفها عالم الآثار كارتر، وهو أول باحث يقوم بإعداد مخطط منظم للموقع في عام 1846 وقد أشار فيه إلى بعض المباني الرئيسية كسور المدينة الجنوبي على ساحل البحر وبعض الأبراج، وقام برسم حدود الموقع في المنطقة الواقعة ما بين الدهاريز والحافة بمساحة تصل إلى ميلين طولا وبعرض 600 ياردة، أما عالم الاثار مايلز فقد ذكر في عام 1883 بأن البليد والمنطقة المحيطة بها كانت يوما ما مأهولة بعدد كبير من السكان ويوجد بها نشاط زراعي واسع. وفي عام 1952 أجرت المؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان حفريات غير منظمة على المدينة القديمة، خصوصا في القصر وبعض المباني المهمة بما فيها المسجد الجامع ومدخلا المدينة.
وظهرت النتائج في رسالة دكتوراة لويندل فيليبس عام 1972 ونشرها ألبيرت عام 1982.
وفي عام 1978 قام باولو كوستا بالتنقيب في ثلاث مناطق رئيسية هي المسجد الجامع والمنطقة “أ” التي تتضمن الجسر الغربي ومدخل المدينة، والمنطقة “ب” التي تتضمن جدران المدينة إضافة إلى مسجد.
وعثر خلال هذه التنقيبات على شواهد أثرية منها أعمدة مبنية من الكتل الحجرية، أغلبها منحوت من كتلة حجرية واحدة، والأعمدة ذات مقطع ثماني الأضلاع وهو السائد، أو دائري. كما عثر على بقايا مسجد مربع الشكل في جنوبا وغرب المنطقة “ب” لم يكن له فناء.
وأشارت الأدلة المكتشفة في الموقع إلى مراحل استيطان أربع تغطي الفترة من 500 إلى 1700 ميلادي. كما عثر أيضا على مقبرة في منتصف المدينة تضم قبورا معظمها موجود داخل جدار مستطيل يضم مسجدا صغيرا وفي الجهة الشمالية من المدينة أظهرت دراسة الصور الجوية وجود بقايا جسر لعبور البحيرة الصغيرة، وعثر أيضا في الموقع على بقايا ثلاثة مداخل أحدها في منتصف سور المدينة وأخرى أصغر قريبة من البحر في الجانب الغربي من الخور.
وفي عام 2009 تم تنفيذ مسح أثري شامل في محافظة ظفار بهدف تحديد طبيعة الاستيطان البشري في العصور التاريخية القديمة المختلفة، وشمل المسح الأثري مدينة البليد والمنطقة المحيطة بها، وأشارت النتائج بأن أقدم البقايا الأثرية التي تم العثور عليها في المنطقة تعود إلى العصر الحجري القيدم ما بين مليون إلى 10 آلاف عام تشير إليها الأدوات المكتشفة والمصنوعة من حجر الصوان والمتناثرة على طول خط الأنهار
القديمة.
كما تم العثور على بقايا أثرية مطمورة تحت قنوات التصريف المائي القديمة في سهل صلالة وعلى طول وادي عندوب. وأكد المسح الذي أجري في المحافظة التصور العام لمدينة البليد “ظفار القديمة” والمنطقة المحيطة بها وما تتمتع به، حيث تم اكتشاف مخلفات للاستيطان البشري  وأساسات لمنازل ومساجد وقنوات لري المزروعات ومقابر تشكل مدينة متكاملة. وعندما تم تنفيذ أعمال التنقيب في سبتمبر عام 2009 لم يكن من الممكن رؤية سوى عدد بسيط من الخصائص المعمارية للبوابة، أما بعد أعمال التنقيب فقد أصبح واضحا بأن البوابة في الواقع جزء من سور المدينة الكبير المجاور لها والذي يحيط بفناء كبير ومنبسط يمتد من الشمال إلى الغرب.
ويحيط بالمجمع بأكمله سور مدينة ضخم وثلاثة أبراج، وبعدما هجر السكان المدينة أصبحت هذه المنطقة مساحة رئيسية تستخدم كمقبرة صغيرة. أما في جهة الغرب من هذه المنطقة فيوجد سد صغير وبوابة صغيرة للتحكم في تدفق المياه العذبة من نبع الماء القريب.
والى الجنوب من البوابة الشرقية فيوجد جدار المدينة حتى أحد الأبراج الرئيسية الذي يمتد بدوره غربا حتى يصل لجدار بحري ضخم جدا يصل طوله لحوالي 40 مترا وعرضه 10 أمتار وهو بحق تحفة هندسية رائعة.
وقد تم بناء هذا الجدار من حجارة تم قصها لتتناسب مع بعضها البعض مع وجود أعمدة خشبية كبيرة تعمل على دعم جدار المدينة من الجهتين، ويبدو بأن هذه الأعمدة هي بقايا لمرفأ كان يستخدم لتحميل البضائع.
كما تم العثور في قاعدة الجدار البحري على حفر تصريف منتظمة مصممة للتخفيف من ضغط الماء بينما توجد في أقصى النهاية الجنوبية منه أساسات من الحجارة الضخمة بالإضافة إلى أعمدة خشبية أيضا بحالة جيدة كانت تستخدم على الأغلب لتدعيم جانبي المرفأ المطل على البحر.
كما يوجد جدار بحري صغير يحيط بالمجمع ككل من جهة الشرق ويمتد حتى الخور في الجهة الشمالية. والى الغرب يبلغ ارتفاع جدار المدينة حوالي مترين ويتكون من حجارة تم تجهيزها بعناية بينما يبلغ عرضه مترين أيضا وتتخلله أبراج شبه متصلة يبلغ مجموعها 13 برجا
تفصل بين كل منهما مسافة 50 مترا تقريبا. وتوجد بوابة ذات مدخل معقوف على شكل فأس على بعد حوالي 600 متر نحو الغرب
على طول الجدار البحري. وكما هو الحال للبوابة الجنوبية-الشرقية التي تم الكشف عنها في عام 1952م فقد تم بناء هذه البوابة من الحجارة الضخمة.
وعلى بعد أمتار قليلة إلى الغرب من هذه البوابة يوجد جدار بحري آخر يبدو بأنه كان في السابق برج تم تمديده ليصبح جدارا بحريا يبلغ طوله 45 مترا. وحتى اليوم أسفرت أعمال التنقيب في الجهة الغربية من الجدار البحري الثاني بالكشف عن 10 -11 برجا.
وسيتم التوصل إلى المزيد من المعلومات حول جدار المدينة والأبراج الإضافية والمباني الأخرى بعد الانتهاء من أعمال التنقيب في البوابة الجنوبية-الغربية التي تم حفريات فيها في عام 2008م.
وبناء على نتائج أعمال التنقيب التي تم تنفيذها فإنه يمكن القول بأن المجمع تم هجره بحلول 1300م نظرا لكون قطع السيراميك من العصور الوسطى التي تم العثور عليها في الجزء الغربي من الموقع غير معروفة هنا. ولكن للأسف يظل أصل هذا المجمع وتاريخ بنائه الرسمي غير واضح.
ولقد تم العثور في المنطقة على مستوطنات غير مكتملة العناصر تعود للعصر البرونزي المبكر والعصر الحديدي، مما يشير إلى وجود استيطان مبكر في الفترة بين 2500 عام قبل الميلاد و عام 250 ميلادي.
واليوم يمكن للزائر أن يتجول في المدينة التي أعيد احياؤها من تحت التراب لتكون شاهدا على عظمة التاريخ وما يمكن ان يصنعه الإنسان، ويقف ليقرأ العبر من كل مجريات التاريخ وتحولاته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*